ذكرت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية أن تصاعد حدة التوترات بين دول البلقان في كوسوفو وصربيا، ووقوع أعمال عنف خطيرة، دفع بعثة حفظ السلام التي يقودها حلف شمال الأطلسي (ناتو) في بريشتينا إلى التحذير من رد فعل قوي، حيث أكد بيان الناتو أن “مهمة كوسوفو التي يقودها الناتو تراقب الوضع عن كثب، وهي مستعدة للتدخل إذا تعرض الاستقرار للخطر”.
وعقب اندلاع الاضطرابات الأخيرة، لم يمض وقت طويل حتى أطلق الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش خطاباته شديدة اللهجة، حيث قال، في مؤتمر صحفي، “سنصلي من أجل السلام ونسعى للسلام، لكن لن يكون هناك استسلام وستنتصر صربيا”.
ورغم أن الموقف هدأ في وقت مبكر بعد تدخل السفير الأمريكي في كوسوفو جيف هوفينيه، الذي نجح في الضغط من أجل تأجيل الإجراءات لمدة 30 يوما لتسوية أي سوء تفاهم، لكن الحادث أثار القلق في جميع أنحاء العواصم الغربية الحساسة لتهديدات العنف الإقليمي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا المجاورة في أواخر فبراير الماضي.
ولفت خطاب فوتشيتس الحاد الانتباه مجددا ـ وفقا للمجلة الأمريكية – إلى موقف صربيا من الحرب الروسية، ففي خطابه قبل أيام، اتهم الزعيم الصربي كوسوفو باستغلال محنة أوكرانيا لخدمة مصالحها الخاصة، وقارن نفسه بنسخة مقلدة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس وزراء كوسوفو ألبين كورتي بنسخة أصغر من رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي.
وأوضحت “فورين بوليسي” أنه منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، انتهج فوتشيتس خطا رفيعا بين دعم الإدانة الغربية لعمليات موسكو العسكرية في أوكرانيا وبين ضمان أن العلاقات الصربية مع الكرملين لن تتعرض لضربة لا رجعة فيها، حيث إن صربيا وبيلاروسيا هما الدولتان الأوروبيتان الوحيدتان اللتان لم تفرضا عقوبات على روسيا.
كما ضاعفت بلجراد عدد الرحلات الجوية المباشرة إلى روسيا رغم حظر الاتحاد الأوروبي للطائرات الروسية، هذا، بخلاف توقيع فوتشيتس في مايو الماضي على عقد مدته 3 سنوات لتمديد الحصول على الغاز الروسي، وهو اتفاق تم إبرامه عبر الهاتف مع بوتين مباشرة وتسبب في غضب القادة الغربيين.
وأرجع فوتشيتس، السياسات التي ينتهجها إلى أنه زعيم دولة صغيرة، وعليه تلبية احتياجات الشعب الصربي، بما في ذلك الاستمرار في الاعتماد على روسيا للحصول على إمدادات الطاقة التي تشتد الحاجة إليها، وقال “نحن بحاجة إلى البقاء، علينا أن نتصرف بعقلانية”.
واعتبرت المجلة الأمريكية أن جزءا من رد صربيا متجذر في التاريخ، حيث قبل الحرب العالمية الأولى، كانت صربيا تدور في فلك موسكو لدرجة أنها أصبحت السبب المباشر للحرب بين الإمبراطوريات الروسية والنمساوية المجرية والألمانية، وخلال الحرب الباردة، لعبت جمهورية يوغوسلافيا السابقة التي كانت تهيمن عليها صربيا دورا جيوسياسيا كبيرا، وهو الدور الذي تلاشى مع تفكك يوغوسلافيا في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، لكن يبدو أن الذكريات المرتبطة بهذه الحقبة مازالت قائمة.
ويؤكد إيفان فيجفودا من معهد الدراسات المتقدمة، الذي يتخذ من فيينا مقرا له، على هذه الفكرة بالقول: “كانت صربيا، المحرك الكبير ليوغوسلافيا السابقة، أحد اللاعبين المؤثرين في الحرب الباردة، وفي أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، شاركت الحكومة اليوغوسلافية في تأسيس حركة عدم الانحياز، وهي صوت ثالث بين الغرب والشرق، ولكن بعد تفكك يوغوسلافيا، ما زالت بعض الدول تعتقد أنها قوية إلى حد ما.. بمعنى أن صربيا تعاني من متلازمة الأطراف المفقودة (الشعور بأن الطرف المبتور أو المفقود مايزال مرتبطا بالجسم ويتحرك بشكل مناسب مع أجزاء الجسم الأخرى) عندما يتعلق الأمر بالقدرة على تحقيق التوازن بين الشرق والغرب”.
وتقول صربيا إنها لا تزال تسعى للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، حيث إنها حصلت على وضع “مرشح” منذ عام 2009، غير أن الاتحاد الأوروبي يشترط أن تعترف صربيا بدولة كوسوفو لاستكمال الإجراءات ذات الصلة، وهو أمر مرفوض في بلجراد، ويكفي هنا الإشارة إلى أنه عندما زار المستشار الألماني أولاف شولتز صربيا في يونيو الماضي، سخر منه فوتشيتس بسبب تعليقاته على اعتراف صربيا بكوسوفو، قائلا: “نحن لا نستجيب للضغوط”.
والمعروف أن بلجراد لم تعترف يوما بالاستقلال الذي أعلنته كوسوفو في العام 2008 بعد عقد من حرب دموية خلفت 13 ألف قتيل معظمهم من ألبان كوسوفو، ومنذ ذلك الحين، تشهد المنطقة اضطرابات بين الحين والآخر.
وتساءلت “فورين بوليسي” عن أسباب تشكيل رئيس صربيا تهديدا لأوروبا، حيث قالت إن حكومة ألكسندر فوتشيتس تساعد وتروج للدعاية الروسية والصينية، كما أن العلاقات الروسية الصربية قريبة للغاية حاليا أكثر من ذي قبل، حيث اتخذت موسكو مؤخرا موقفا متشددا بشأن التوترات الإقليمية، إذ دعت روسيا بريشتينا إلى “وقف الاستفزاز ومراعاة حقوق الصرب في كوسوفو”.
وترى المجلة الأمريكية أن تعرض بلجراد لضغوط من الاتحاد الأوروبي لدعم العقوبات ضد روسيا، جعل الصين أكثر أهمية بالنسبة لصربيا، حيث أصبحت الصين في السنوات القليلة الماضية، الشريك المهيمن لصربيا خارج العالم الغربي.
وأوضح فوك فوكسانوفيتش من مركز بلجراد للسياسات الأمنية أن “الصين حلت بالفعل محل روسيا باعتبارها الشريك الأول لها في الشرق الأقصى، كما أن صربيا لا تريد أن تضع بيضها في سلة واحدة، وأن الأمر كله يدور حول مناورات تكتيكية، وأن الصين كانت جزءا من هذه المعادلة، خاصة أنها لا تعترف بكوسوفو”.
وترى “فورين بوليسي” أن التطورات الأخيرة في المنطقة بمثابة تذكير لبروكسل بأن اعتراف الصرب بكوسوفو لا يزال بعيد المنال وأن يد روسيا في المنطقة لم تختف، كما أن حالة الإجماع التي تنشدها بروكسل لاتزال حلما صعب التحقق وسط حالة الانقسام بين دول أوروبا بشأن المصالح المتضاربة.
المصدر : أ ش أ