للحروب ظلال كثيرة. بعضها يُعد، وآخر لا يُحصى. عدّادات القتل والدمار التي تتسبّب فيها الآلات العسكرية تظل قيد الإحصاء والحصر والشجب والتنديد. بخلاف عدّادات الحبوب التي يجري زرعها وحصادها وتوزيعها وتوصيلها إلى ملايين الأفواه التي تنتظر لتسد رمق اليوم والغد.
رمق اليوم والغد، ولحين إشعار آخر، مهدد بشح رغيف الخبز، وربما أفدح، إذ إن تدخل روسيا في أوكرانيا يعني، إضافة لعدّادات الموت والدمار العاملة دون هوادة، عداداً آخر يضع 30 في المئة من إنتاج القمح في الكوكب قيد أتون الحرب. هذه الـ30 في المئة وضعت ضغوطاً هائلة على عشرات الدول التي تعتمد في خبزها على واردات القمح من روسيا وأوكرانيا
ثماني دول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا باتت مهددة بأزمة خبز قاسية. وعلى مستوى العالم، فإن المعاناة تلوح في الأفق بدرجات متفاوتة كذلك لدول عدة. فمن إندونيسيا إلى بنجلاديش إلى نيجيريا والبرازيل واليابان والمكسيك، حتى دول الاتحاد الأوروبي، جميعها مضار من خطر القمح المتوقف تصديره واستيراده.
صحيح أن حجم الأزمة لن يتضح قبل مرور أربعة أشهر، وهي المدة اللازمة لبدء موسم الحصاد المقبل، الذي ينتظره المراقبون بفارغ الصبر، لأن استمرار العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا يعني احتمالات كبيرة بتعذر الحصاد ومخاطر التحميل والنقل والتصدير، ومن ثم الوفاء بتعهدات التصدير، لكن المؤشرات لا تدعو إلى كثير من التفاؤل، لا سيما أن وضع رغيف الخبز والمحاصيل الغذائية وأسعارها قبل اندلاع الأزمة كان أبعد ما يكون عن المثالية.
مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالحق في الغذاء، مايكل فخري، حذر قبل أيام من أن العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا تسببت في معدلات جوع شديدة، وقد تزيد من معدلات سوء التغذية والمجاعة في دول عدة. وقال فخري إنه “على مدى السنوات الثلاث الماضية، ظلت معدلات الجوع والمجاعة في ارتفاع. ومع العملية العسكرية الروسية نواجه خطر مجاعة وشيكة وجوع في مزيد من الأماكن حول العالم”، مطالباً بوقف العمليات العسكرية التي سيكون لها عواقب عديدة وخيمة وطويلة الأجل على الأمن الغذائي للجميع.
الخبير الأممي اعتبر الجوع والمجاعة وسوء التغذية أموراً تنتج في الأغلب من الفشل السياسي، لكن كما تسببت الحرب أو الفشل السياسي في تعريض احتياجات مليارات البشر من القمح لخطر الشح، فإن هذه الحرب وهذا الفشل يفتحان الباب كذلك لإعادة أحياء دبلوماسية القمح.
وهذا الشأن استراتيجي دبلوماسي بحت. ودبلوماسية القمح ليست وليدة حرب روسيا وأوكرانيا، بل وليدة حروب كثيرة على مر التاريخ. فبالأمس القريب، وتحديداً في 2020 عقب انفجار مرفأ بيروت المروع، أطلت دبلوماسية القمح برأسها حين تلت زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مبادرة من قبل مزارعي الحبوب الفرنسيين. وكان مزارع فرنسي قد دعا زملاءه عقب زيارة ماكرون ليقدم كل منهم طناً من القمح من أجل لبنان، وما هي ألا أيام معدودة حتى كان 500 طن من الدقيق في طريقه إلى بيروت.
إضافة إلى المشاعر الإنسانية والأحاسيس المرهفة والرغبة في تقاسم رغيف الخبز بين القادر وغير القادر، فإن تقاسم رغيف الخبز يكون أحياناً قامعاً لاحتمالات نشوب إرهاب، أو ترسيخاً لوجود سياسي وقوة اقتصادية وهيمنة جيوسياسية، أو درءاً لقوة أخرى لديها القدرة على اقتسام رغيف مشابه وإمدادات من القمح ربما أوفر.
خلف الرغيف كانت هناك رغبة منطقية في ضمان فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية مكاناً ومكانة لها في منطقة البحر المتوسط، وهي المنطقة التي نافست عليها روسيا كثيراً، وأبلت فيها بلاء حسناً بعد أن أصبحت أكبر مصدر للقمح في العالم عام 2019.
دبلوماسية القمح التي رسخت أقدام روسيا في عديد من دول منطقة البحر المتوسط، والتي سارت جنباً إلى جنب مع كونها أكبر موردي السلاح لدول المنطقة، هي نفسها التي يتبعها عدد من الدول المنتجة للقمح لاسترداد أو صناعة أو ترسيخ دور لها
دور روسيا في معادلات دبلوماسية القمح ليس وليد حربها في أوكرانيا. ففي 2017، نجحت روسيا في أن تترأس قائمة أكثر دول العالم تصديراً للقمح، متفوقة على كل من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا للمرة الأولى. وحين خرج الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ليعلن أن “روسيا أصبحت رقم واحد” في مؤتمر صحفي، كان على الأرجح يعلن أن الطريق بات ممهداً أمام الطموح الروسي، لتلعب بلاده دوراً آخذاً في النمو كـ”قوة عظمى” عبر قنوات الدبلوماسية الغذائية. وفتحت روسيا أسواقاً شاسعة لنفسها في الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وفي القارتين الأوروبية والآسيوية. وهذا النظر الدبلوماسي الروسي جعل البعض يصف الحبوب الغذائية الروسية بـ”نفط الكرملين الجديد”.
نفط الكرملين الجديد وضع عديد من دول العالم، لا سيما في المنطقة العربية، في مرمى نيران الحرب الدائرة على بعد آلاف الأميال. ونفطه القديم وغازه دفعا عديداً من الدول الأوروبية إلى الهرولة للبحث عن بدائل سريعة. وإذا كان الحظ يقف إلى جوار أوروبا الباحثة عن بدائل، إذ إن اقتراب الصيف يخفف إلى حد ما من هلع نقص الغاز وإمكانية استجابة المواطنين لدعوات ترشيد الطاقة، فإن دعوات ترشيد رغيف الخبز في دول أغلبها نامٍ قد تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية هي في غنى عنها.
لذلك، تظهر على السطح الدبلوماسي في هذه الآونة عروض بعض الدول المنتجة للقمح، لمد يد العون إلى دول تأثرت سلباً جراء الحرب الحالية، وأغلبها عروض لا يمكن فهمها خارج ما يعرف بـ”نظام الغذاء العالمي” المرتبط ارتباطاً وثيقاً بخريطة المصالح والتوازنات وآليات الضغط من أجل الحصول على مكاسب أو تحقيق غنائم. وتشير دراسة عنوانها “القمح والسياسة والقوة” (2017) أجرتها “الجامعة النرويجية لعلوم الحياة” إلى أن تجارة الحبوب العالمية عنصر مركزي في نظام الغذاء العالمي. وعلى مدار عقود طويلة، ظلت الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا وعدد من الدول الأوروبية مُسيطرة على تجارة الحبوب في العالم، إلى أن أطاحت روسيا هذه الهيمنة في السنوات الأخيرة. وتشير الدراسة إلى أن صادرات فائضات القمح كانت، خلال الحرب الباردة والسنوات التي تلتها، جزءاً مهماً، ليس فقط من تجارة أميركا، بل ومن سياستها الخارجية وبرامج المساعدات التي تقدمها لدول بعينها.
الدراسة تساءلت عما إذا كان الدور الروسي الناشئ كأكبر مصدر للقمح في العالم من شأنه أن يعيد تشكيل علاقات القوة على الصعيدين السياسي والغذائي العالمي، في إشارة إلى عملية إعادة الهيكلة الجارية لتجارة الحبوب العالمية، بالتالي إعادة تشكيل وتعريف توازنات القوة والدبلوماسية، إضافة إلى قدرة روسيا على تحديد أجندة جديدة لحوكمة الغذاء في السنوات المقبلة.
السنوات المقبلة كما يتضح من النتائج الأولية للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا كشفت عن حجم الدور الروسي في نظام الغذاء العالمي. فروسيا دأبت على استخدام الغذاء كأداة دبلوماسية في علاقاتها، وكذلك عداءاتها مع دول أخرى كما تشير حوادث وأحداث عدة. مثلاً، أصدرت روسيا قراراً بحظر عدد من الواردات الزراعية التركية ضمن سلسلة من الإجراءات “العقابية” غير المباشرة بعد إسقاط طائرة مقاتلة روسية على يد القوات التركية في 2015. وتم استئناف تلقي الواردات بعد عامين، أي في 2017 حين تبوّأت روسيا مكانة الصدارة في تصدير القمح عالمياً، وبعد أن وافقت تركيا على مرور الغاز الروسي إلى أوروبا بديلاً عن بلغاريا التي رفضت عبوره. مثال آخر لدبلوماسية القمح كانت بطلته إيران. ففي مقابل مبيعات القمح لطهران، تلقت روسيا النفط الإيراني كجزء من برنامج النفط في مقابل الغذاء، وذلك قبل إعادة فرض العقوبات الأميركية على طهران في 2018.
كتب التاريخ عامرة بـ”دبلوماسية القمح”. والبطلتان الكلاسيكيتان هما القوتان العظميان سابقاً (وربما حالياً) أميركا والاتحاد السوفياتي. وفي مقال عنوانه “الدبلوماسية الأميركية، مؤتمر القمح في عام 1933، والاعتراف بالاتحاد السوفياتي” (1966) نُشر في دورية “تاريخ الزراعة”، وسرد لدور القمح في تشكيل وتوجيه العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي (السابق). وكان القمح قد أثبت دوره الاستراتيجي بين القوتين العظميين قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، واستمر هكذا بين شد وجذب عبر المنع والمنح حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ثم صحوة روسيا وتحولها إلى أكبر مصدر للقمح.
الاكتفاء الذاتي من القمح سياسة تضمن قدراً من الاستقلالية. وإنتاج ما يفيض عن الاستهلاك المحلي وتصديره سياسة تضمن كل استقلالية وقدرة على فرض الهيمنة وبسط المصالح. والاعتماد الجزئي على القمح المستورد هو تضحية بالاستقلالية وإشهار درجات متفاوتة من الإذعان هنا، أو الاستعداد للاستقطاب هناك. والاعتماد الكلي على استيراد القمح هو التحول إلى ريشة في مهب السياسة.
العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تعيد التأكيد أن القمح أداة دبلوماسية ودبابة سياسية. وعقب أزمة نقص الغذاء العالمية في 1973 و1974، رسخ الغذاء، وتحديداً القمح مكانته كعنصر حيوي من عناصر السياسة الخارجية، إضافة إلى كونه أداة استقرار أو زعزعة أنظمة محلية.
تبقى جدلية استخدام الغذاء كأداة للهيمنة والنزاع والضغط مستمرة، لكنّ بقاءها مادة للنقاش والتنظير لا يعني عدم ممارستها. فنقص الخبز يعني اضطرابات سياسية، ناهيك بكونه أداة تجويع. وهذا يعني أن وفرة الخبز ضمان لبقاء أنظمة، وسطوة دول على حساب أخرى، وسد رمق بطون، وربما كسر عيون.
المصدر: وكالات