تواصل جرافات تابعة لسلطة الآثار الإسرائيلية وبلدية القدس أعمال التجريف أسفل الجدار الغربي لقلعة القدس التاريخية (برج داود حسب التسمية اليهودية) تمهيداً لبناء سوق ومجمع تجاري وسياحي في أسفل الأرض لاستقطاب الحركة التجارية والسياحية الوافدة ضمن مشروع ضخم يستهدف تغيير معالم منطقة باب الخليل، وساحة ميدان عمر بن الخطاب بالبلدة القديمة من القدس.
ويتضمن المشروع، حسب سلطة الآثار الإسرائيلية التي تشارك فيه إلى جانب بلدية القدس، إقامة ساحات وأسواق ومجمعات تجارية وسياحية ضخمة، ومتحفاً تحت الأرض تم إنجاز جزء كبير منه لوصول السياح الأجانب واليهود إلى باب الخليل من خلال ساحات قريبة وزجاجية واستراحات للسياح، ورصدت الحكومة الإسرائيلية عبر سلطة الآثار ميزانية بقيمة 40 مليون شيكل (12 مليون دولار) على أن ينفذ بمبادرة من مؤسسة “Clore Israel” (غير ربحية) خلال العام الحالي.
مسؤولون وخبراء فلسطينيون حذروا من التداعيات الخطيرة الناجمة عن المشروع الجديد، الذي سيغيّر، حسب تعبيرهم، من معالم البلدة القديمة ويضعف الحركة التجارية والسياحية المقدسية.
خبير شؤون الاستيطان ومدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية في القدس، خليل تفكجي قال، “المشروع السياحي الضخم الذي سيقام في منطقة باب الخليل يأتي في سياق مشروع أشمل يستهدف تغيير معالم المنطقة هناك بخاصة ميدان عمر بن الخطاب المفضي إلى البلدة القديمة، وجعل المدينة المقدسة جاذبة للسكان الإسرائيليين، فعبر إقامة هذه الأبنية الضخمة التي هي مشاريع استثمارية اقتصادية من محال تجارية وفنادق ومتاحف ومطاعم، سيتم تعزيز الرؤية التهويدية الإسرائيلية التي تتكلم دوماً عن أقلية عربية وأكثرية يهودية في المدينة المقدسة، كما أن الأهداف الاستراتيجية لهذا المشروع التهويدي تندرج ضمن تغيير المشهد العام لمدينة القدس التاريخية، فالقادم من الناحية الغربية باتجاه الشرق يشعر أنه في مدينة عصرية ليست لها علاقة بالتاريخ، وتحديداً حي الأرمن وحارة الشرف أو ما تعرف الآن بالحي اليهودي، حيث تتركز الكثافة الاستيطانية داخل البلدة القديمة في هذا الحي الذي يقطنه نحو 3500 مستوطن، عدا المئات من المستوطنين وطلاب المدارس الدينية الموزعين على عشرات العقارات، التي تم الاستيلاء عليها من مقدسيين، والجانب الإسرائيلي يريد أن يقول للعالم هنا تاريخنا ونحن هنا من قبل 3000 عام”.
أكدت بلدية القدس وسلطة الآثار وهيئة تنمية القدس أن المشاريع المختلفة في القدس بشقيها تأتي “لتطوير وتجميل المدينة وتحسين مرافقها” (اندبندنت عربية)
ويخشى المقدسيون من أن يؤدي المشروع الإسرائيلي هذا إلى انتكاسة إضافية للحركة التجارية والسياحية في البلدة القديمة، التي تعاني ركوداً تجارياً شبه تام ازداد تدهوراً مع جائحة كورونا، وكانت تقديرات الغرفة التجارية في القدس أشارت إلى ارتفاع نسبة المحال التجارية التي أغلقها المقدسيون خلال الجائحة ونتيجة الضرائب المفروضة عليهم، والتي أدت إلى إغلاق ما يقرب من 400 محل اضطر أصحابها إلى إغلاقها والتحول إلى أماكن عمل بديلة.
وعن مكانة وأهمية باب الخليل، قال الباحث المقدسي مازن الجعبري، “نتحدث عن منطقة استراتيجية وحيوية تعتبر المدخل الغربي للقدس القديمة، ومن شأن هذا المشروع تغيير المعالم الحضارية والتاريخية للمنطقة وإيجاد ساحات لجذب المزيد من الإسرائيليين والسياح وإبعادهم عن أبواب وأسواق البلدة القديمة، وإيجاد أسواق بديلة مستحدثة إسرائيلية، ومنعهم من التعامل مع التجار العرب ولا حتى رؤيتهم، وهذا جزء من سياسة تهويد القدس وتاريخها بالكامل، وتضييق الخناق على المقدسيين، وإعدام اقتصادهم الذي يعتمد بالأساس على السياحة التي تشكل 40 في المئة من الناتج المحلي لاقتصاد القدس. البلدة القديمة وحدها تحتوي على 1400 محل تجاري، قرابة نصفها تختص بالتحف الشرقية وتعتمد بشكل مباشر على السياحة، وفي ظل هذا المشروع الإسرائيلي الجديد الذي سيخطف السياح الأجانب من البلدة القديمة عبر نفق تحت الأرض، سيكون هناك تدهور اقتصادي ضخم سيؤثر في نحو 43 ألف نسمة يسكنون البلدة القديمة”. مضيفاً، “تعمل إسرائيل على ربط القدس الغربية مع شرق البلدة القديمة بهدف إقامة مشروع (القدس الكبرى)، وحسم موضوع القدس بشكل نهائي ومعقد، حتى لا تكون عاصمة لفلسطين في أي مفاوضات مقبلة”.
وتدفع إسرائيل نحو هذا المشروع في وقت حذرت فيه الرئاسة الفلسطينية من أن الحكومة الإسرائيلية تحاول أن تسابق الزمن لفرض وقائع على الأرض، لمنع إقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً، وعاصمتها القدس الشرقية، وأعلنت وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية استمرارها في الاتصالات الهادفة لتهيئة المناخات والظروف الدولية المناسبة لعقد جلسة لمجلس الأمن الدولي، لبحث الملف الفلسطيني، وهاجمت في الوقت ذاته الحكومة الإسرائيلية التي يقودها نفتالي بينيت. وطالبت في بيان أصدرته في 12 مارس الحالي الإدارة الأميركية بالوفاء بالتزاماتها وتحمل مسؤولياتها في حماية حل الدولتين. واعتبرت أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي “بتصعيد الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية لصالح مشاريعه الاستيطانية الاستعمارية التوسعية، يهدف لإنهاء أي فرص لحل الصراع على أساس مبدأ حل الدولتين وفق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وتعميق تهويد وأسرلة المدينة المقدسة لعزلها عن محيطها الفلسطيني، لحسم مستقبل المدينة بالقوة من طرف واحد قبل أية مفاوضات مستقبلية”. وأكدت الخارجية الفلسطينية أن “عمليات أسرلة وتهويد القدس باطلة وغير شرعية وتشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، وتمرداً إسرائيلياً رسمياً على الشرعية الدولية وقراراتها”.
وعند منطقة باب الخليل الذي يعتبر ثاني أكبر الأبواب وأشهرها في سور القدس بعد باب العامود، تخوض عائلة الدجاني وعائلات فلسطينية أخرى منذ نحو عقدين أو يزيد، صراعاً قضائياً مع جمعيات استيطانية تدّعي ملكيتها ثلاثة عقارات تاريخية مهمة في المنطقة، تشمل فندقين يقعان مباشرة خارج باب الخليل في قلب حي النصارى في البلدة القديمة، إضافة إلى قصر حي الإسلامي في المعظمية، وكلها مملوكة لبطريركية الروم الأرثوذكس، إلا أن محكمة العدل العليا الإسرائيلية أقرت عام 2019 وبشكل نهائي بحق المستوطنين في العقارات الثلاثة التي تم شراؤها بمبلغ مليون و850 ألف دولار، موزع على فندق “البترا” بقيمة نصف مليون دولار، وفندق “الإمبريال” بقيمة مليون و250 ألف دولار، وقصر المعظمية بـ55 ألف دولار، كما قامت المحكمة آنذاك برد الدعوى التي رفعتها بطريركية الروم الأرثوذكس بشأن تزوير أوراق الصفقة التي تمت عام 2004.
وليد الدجاني الذي تدير عائلته فندق “الإمبريال” منذ عام 1949 قال، “مشروع باب الخليل التجاري السياحي المنوي تنفيذه هذا العام، سيدفع المستوطنين إلى ملاحقتنا والضغط علينا ومراقبتنا من أجل ترك المكان، فما إن أقرت المحكمة صحة أوراق الشراء التي بحوزة جمعية عطيرت كوهانيم، حتى قاموا بمسح وتصوير محتويات العقارات الثلاثة بشكل دقيق ومفصل من الداخل والخارج، وسنطرد على الفور في حال أضفنا أي مسمار، وستسقط عنا الحماية، وبما أن الفندق موجود داخل حي النصارى، فمن المتوقع أن تبدأ شركة عطيرت كوهانيم بملاحقة المستأجرين خلال الفترة المقبلة قضائياً لطردهم من محالهم التجارية، وإلزامهم بدفع الإيجار لهم بأثر رجعي عن السنوات السابقة (منذ عقد الصفقة)، وهناك 15 محلاً تجارياً لمسيحيين تحت الفندق، ما يعني أن هناك تداعيات ديموغرافية خطيرة لهذا المشروع بخاصة على الوجود المسيحي الفلسطيني في البلدة القديمة، الذي لا يتجاوز حالياً واحداً في المئة فقط من مجموع سكان البلدة البالغ عددهم نحو 40 ألف نسمة”.
أضاف الدجاني، “باب الخليل هو الأسهل لدخول اليهود من القدس الغربية إلى حائط البراق مشياً على الأقدام أو بالسيارات، ومستقبلاً بوسائل نقل أخرى، ولا ينفصل ما يجري تنفيذه من مشاريع تهويد في القدس القديمة عن لب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بخاصة في ما يتعلق بموضوع الرواية”.
وكان البطاركة ورؤساء الكنائس في القدس قالوا عبر بيان، “نحن لا ننظر إلى قضية عقارات باب الخليل على أنها قضية خلاف على عقارات، بل على أنها محاولة لمجموعات متطرفة للسيطرة الممنهجة على قدسية مدينة القدس، وتدمير أقدس الأماكن لمسيحيي العالم وقِبلة حجهم، وإضعاف الوجود المسيحي الأصيل في المدينة المقدسة”. مشددين على أن “قضية عقارات باب الخليل لا تؤثر على بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية فقط بل ستؤذي الوئام بين المجتمعات المختلفة في المدينة”. وطالبوا “الحكومة الإسرائيلية بالتحرك لحماية التواجد والإرث المسيحي والأماكن المقدسة في البلدة القديمة بالقدس، وحقوق سكان حي النصارى فيها”.
وفي الوقت الذي يتخوف فيه الفلسطينيون من اقتلاعهم من منطقة باب الخليل وميدان عمر بن الخطاب لصالح مشاريع سياحية إسرائيلية ضخمة، أكدت بلدية القدس وسلطة الآثار وهيئة تنمية القدس، أن المشاريع المختلفة في القدس بشقيها تأتي “لتطوير وتجميل المدينة وتحسين مرافقها”، التي ستخدم سكان المدينة على حد سواء، كما أشارت بعض المؤسسات الإسرائيلية الداعمة للمشروع إلى أنه سيفضي إلى توفير فرص عمل للمقدسيين وتحسين معيشتهم ضمن الخطة الاقتصادية والاجتماعية الحكومية الخمسية (2018-2023)، الرامية إلى “تحسين جودة حياة السكان بشكل هائل وخلق العدالة الإنسانية والمكانية والحضرية”، وذلك حسب معهد القدس لبحث السياسات الإسرائيلية (غير حكومي).
وخلال شهر فبراير (شباط) الماضي، كشفت جمعية “إلعاد” الاستيطانية، عن حصولها على مصادقة بلدية القدس وسلطة الآثار للشروع ببناء مركز سياحي ضخم في أعلى سفوح جبل المكبر (جنوب شرقي القدس)، قرب مقر المندوب السامي للأمم المتحدة، وبحسب المخطط، سيتم بناء مركز سياحي مزود بأحدث طرق العرض المدمج وثلاثي الأبعاد يضم قاعات عرض ومعارض فنية وتماثيل ومجسمات وخرائط وشروحاً وأفلاماً تعرض التاريخ اليهودي.
تقرير سابق للاتحاد الأوروبي انتقد إسرائيل لتطوير السياحة حول القدس القديمة، معتبراً أن منظمة “إلعاد”، التي تدير موقع مدينة داود ومشاريع أخرى، تروج إلى “رواية يهودية بحتة، بينما تفصل الموقع عن محيطه الفلسطيني”. ويقول المنتقدون إن موقع التطوير، وهو هدف سياحي شعبي “جزء من عملية لترحيل سكان المنطقة الفلسطينيين، وهي جزء من حي سلوان العربي”، والرواية التاريخية التي يفيد التقرير بأن تطوير السياحة الإسرائيلية في المنطقة يروج لها مبنية على الادعاء “بالاستمرارية التاريخية للوجود اليهودي في المنطقة على حساب ديانات وثقافات أخرى”. وقال التقرير، الذي نشره دبلوماسيو الاتحاد الأوروبي في صحيفة “غارديان” البريطانية إن “الأوضاع عامة في المدينة وإمكانات السلام تراجعت”.
يرى مراقبون أن تعزيز القطاع السياحي والتجاري في القدس يكمن في خطة القدس”5800″ أو ما يعرف بمخطط 2050، التي ترى القدس “مدينة عالمية، ومركزاً سياحياً وبيئياً وروحياً وثقافياً بارزاً” يجذب 12 مليون سائح (عشرة ملايين أجنبي ومليوني زائر محلي) وما يزيد على أربعة ملايين مقيم، ولجعل القدس “مصدراً سياحياً رئيساً في الشرق الأوسط”، تهدف خطة القدس “5800” حسب ما هو معلن، إلى زيادة الاستثمار الخاص وبناء الفنادق، وتشييد الحدائق على أسطح البنايات والمتنزهات، وتحويل المناطق المحيطة بالمدينة القديمة إلى منطقة فنادق يُحظَر فيها سير المركبات، وترتئي الخطة أيضاً بناء طرق عالية الجودة للمواصلات، واستحداث العديد من الطرق السريعة وتوسيع الطرق القائمة، وطريق “فائق السرعة” يقطع إسرائيل من الشمال إلى الجنوب، ويسعى واضعو الخطة لإظهارها أنها غير سياسية تروج إلى “السلام من أجل الرخاء الاقتصادي”، ويفضي تنفيذها إلى جني 120 مليار دولار إضافية، واستحداث 75000-85000 فرصة عمل بدوام كامل في الفنادق، و300000 وظيفة إضافية في الصناعات ذات الصلة، ما سيؤدي إلى تقليل نسب الفقر وجذب المزيد من اليهود إلى القدس.
الباحث في مركز مدار للدراسات الإسرائيلية عبد القادر بدوي، قال، “السياسات الإسرائيلية عملت على إعادة إنتاج الحيز الفلسطيني من خلال عمليات التخطيط والاستيطان، وبشكل موازٍ، التعامل مع الفلسطينيين كمقيمين تتم إدارتهم وفق خطة محكمة تحد من تناميهم ديمغرافياً، وخلقت واقعاً جديداً سيكون من الصعب التراجع عنه ما لم يُفرض عليها دولياً بعد أن تمكنت من إعادة صياغة (حل الدولتين) بطريقة تضمن مصالحها واعتباراتها التي تحتل القدس فيها المرتبة الأولى (كعاصمة موحدة)، وعملت، من خلال منظومة استيطانية تهويدية متكاملة، إلى تشويه طابع المدينة المقدسة وصولاً إلى محاولة تغييره كلياً ليصبح طابعاً يهودياً صهيونياً، بالتزامن مع السعي المسعور لإزالة الطابع العروبي الإسلامي المسيحي، في سياق تحويل القدس إلى (أورشليم) بكل ما تتضمنه هذه المقولة من إحالات سياسية واقتصادية وثقافية ودينية مكثفة”.
نهاية فبراير الماضي، أشار موقع “Jewish News Syndicate” الإخباري، المهتم بشؤون إسرائيل، إلى اتفاق أبرمته الولايات المتحدة وإسرائيل على تشكيل فريق عمل مهني مشترك لتعزيز المشاريع السياحية بين إسرائيل والولايات المتحدة والدول العربية التي قامت بتوطيد العلاقات مع إسرائيل. وناقش وزير السياحة الإسرائيلي يويل رازفوزوف والسفير الأمريكي لدى إسرائيل توماس نيديس التحدي المتمثل في إعادة فتح السياحة في ظل جائحة كورونا، وإطلاق لقاءات ثقافية بين إسرائيل ودول المنطقة بقيادة السفارة الأميركية في إسرائيل.
المصدر:وكالات