الاتجاه الأمريكى الغربى لعزل روسيا اقتصادياً بدأ يطرق أبواب الغرب ذاته، كما أبواب العالم بأسره. العقوبات الاقتصادية على بلد بحجم روسيا، فى مجالى الطاقة والقمح على وجه التحديد، سبّبت الأذى للجميع. مؤشرات المعاناة فى روسيا مؤكّدة، البعض فى الغرب، خاصة الولايات المتحدة التى تتصرف باعتبارها قادرة على تعويض كل علاقاتها التجارية مع روسيا، لا يهمها كم يعانى العالم، بما فى ذلك حلفاؤها المقربون.
المهم لديها هو تركيع روسيا اقتصادياً، لعل ذلك يثير احتجاجات واسعة فيها، أو يدفع البعض إلى الانقلاب على الرئيس بوتين، أو لعله يقتنع بالتخلى عن العملية العسكرية بلا مقابل.
الواقع يناقض تماماً التصورات الأمريكية. المعاناة بدأت ترتد على الحلفاء الغربيين. فالمجر تصدر قانوناً يمنع تزويد أوكرانيا بالسلاح. العقوبات على قطاع النفط والغاز والفحم الروسى، التى تجاهد واشنطن لإقناع حلفائها الأوروبيين باعتماد حظر شامل على هذه الواردات لا تجد آذاناً مصغية. ألمانيا الأكثر رفضاً لهذا التوجه غير العقلانى. «انقطاع الكهرباء وإظلام ألمانيا وتوقف الاقتصاد الألمانى لن يوقف الدبابات الروسية فى أوكرانيا»، على حد قول متحدثة رسمية فى المستشارية الألمانية. شركات أمريكية كـ«شل» وفرنسية كـ«إنجى» للطاقة، ترفض الحظر على النفط الروسى، بسبب أن التخلى عن النفط الروسى فى السوق العالمية، لا يمكن تحمل نتائجه.
لكن الواضح أن الولايات المتحدة لا يهمها مصالح حلفائها، فقد تتّخذ قرار الحظر بمفردها، وهى تعلم أن عقوباتها الاقتصادية الأحادية تمتثل لها مؤسسات وشركات ودول كثيرة تحسباً من تحمّل أعباء الخضوع إلى عقوبات أمريكية. فى الوقت ذاته تبحث واشنطن عن بدائل لتعويض النفط الروسى، وهى على استعداد لأن تتخلى عن عداءات تاريخية مع دول أخرى قد تُسهم فى زيادة المعروض من النفط، وبما يعوض نقص المعروض من النفط الروسى إذا تم حظره أمريكياً أولاً وأوروبياً لاحقاً.
الإسراع فى توقيع اتفاق نووى جديد مع إيران، يؤدى إلى رفع العقوبات وعودتها إلى سوق النفط العالمى دون قيود، والانفتاح على فنزويلا بقيادة اليسارى مادورو، والاستعداد للتخلى عن العقوبات الأمريكية المفروضة على هذا البلد، ورفع الحظر عن الأموال المجمّدة لفنزويلا فى المصارف الأمريكية، والسماح للنفط الفنزويلى برفع الإنتاج لمستويات أعلى من المحدّد، خطوتان مهمتان فى التحركات الأمريكية، لكن تأثيرهما على قطاع النفط العالمى سيتطلب بعض الوقت، يقدّره الخبراء بما لا يقل عن ثلاثة أشهر وربما أكثر. وهى مدة طويلة، ومع فرض حظر أمريكى متعجّل على النفط الروسى، ستصل الأسعار إلى مستويات فلكية أكثر من التى حققتها فى الأيام الماضية وتجاوزت 60 فى المائة. والمحصّلة المزيد من أزمات الطاقة، والمزيد من جنون الأسعار وفوضى الاقتصاد العالمى، دون أن يؤدى الأمر إلى وقف الدبابات الروسية، على حد قول المسئولة الألمانية. مسئولون عقلاء نسبياً حلفاء لواشنطن يرون الأمر على نحو مختلف. فكرة الوساطة والاستمرار فى التواصل مع القيادة الروسية وتبادل الأفكار معها لوقف الحرب، وإيجاد حلول عملية تقبلها موسكو وكييف، باتت تهيمن على عقل الرئيس ماكرون، وحتى الرئيس التركى أردوغان ورئيس وزراء إسرائيل بينيت، وأخيراً الصين التى عرضت القيام بوساطة مقرونة برفض العودة إلى عقلية الحرب الباردة، أو أن يتدخّل أحد فى العلاقات الصينية – الروسية، حسب تصريحات وزير الخارجية الصينى الأحد الماضى.
عروض الوساطة ليست من أجل أوكرانيا بقدر ما هى من أجل مصالح أصحابها، ففرنسا باتت تدرك أن العملية العسكرية الروسية، وأياً كانت الطريقة التى تنتهى بها قد فرضت مقدّمات وضع عالمى جديد، كما فرضت تغيرات هيكلية فى مفهوم الأمن الأوروبى ذاته، لاسيما بعد توجه ألمانيا إلى استعادة دورها العسكرى، سواء فى إطار الناتو أو خارجه، مما يفرض التعامل برشادة وبأقل قدر ممكن من الاندفاع لمعاداة روسيا، على عكس ما يطمح إليه البيت الأبيض. ناهيك عن ضغوط الحرب ذاتها، سواء ما يتعلق بالمهاجرين الأوكرانيين، أو إصرار الرئيس الأوكرانى زيلينسكى على قيام الناتو بفرض حظر طيران على أجواء بلاده، والذى يعنى عملياً تورّط الناتو فى مواجهة مباشرة مع روسيا يخشاها الجميع. وبالقطع فإن الآثار العكسية للعقوبات التى فُرضت على روسيا لها دور فى تحفيز الرئيس ماكرون على استمرار المحاولة بالتوسّط، لعل وعسى تتوافر عوامل نجاح ولو جزئى.
المصالح التركية الكبرى مع روسيا، كما المصالح والروابط الخاصة بين إسرائيل وموسكو، تدفعان لمحاولة القيام بوساطة. حتى اللحظة تبدو موسكو منفتحة على تلك الاتصالات، سواء الهاتفية مع أردوغان، أو اللقاء المباشر مع بينيت فى موسكو، لغرض توصيل رسالة واحدة لم تتغير، وهى أن أهدافها من العملية العسكرية واجبة التحقيق، سواء بالمفاوضات أو بالعمل العسكرى. بعبارة أخرى تأكيد على الموقف المُعلن من قبل، دون أى تنازل، وإقناع الأطراف الساعية للوساطة أن تكون طرفاً فى الضغط على النخبة الأوكرانية الحاكمة لقبول المطالب الروسية. ولا تنسى موسكو هنا بعض التحرّكات الرمزية، كالإعلان عن فتح ممرات إنسانية فى عدد من المدن الأوكرانية التى يحاصرها الجيش الروسى، لمن يريد الخروج، باعتباره استجابة لطلب الرئيس الفرنسى ماكرون. حتى اللحظة لا تبدو حظوظ تلك الوساطات جيّدة. فكلا الطرفين المتحاربين يبدوان مُصريْن على مواقفهما. ورغم ضعف موقف الناتو وتقاعس الغرب عن دعم أوكرانيا، والشعور بخيبة الأمل من عدم شمول العقوبات الاقتصادية لقطاعات مهمة فى الاقتصاد الروسى، حسب تصريحات الرئيس الأوكرانى زيلينسكى، لكنه مُصر أيضاً على عدم التنازل عن أى أراضٍ تطالب بها موسكو، أو إعلان الحياد أو نزع السلاح. ناهيك عن التمسّّك بالمقاومة وفتح بلاده أمام متطوعين أوروبيين ومرتزقة من أى جنسية حتى لو كانت متهمة بالإرهاب، مع الاستعداد للعفو عنهم ما داموا سيقاتلون جنباً إلى جنب الجيش الأوكرانى.
مفهوم الوساطة حسب السوابق التاريخية لا يُجدى إلا بشروط؛ أولها وأهمها اقتناع الأطراف المتحاربة بأن العمل العسكرى قد وصل إلى سقفه الأعلى، وأن بالإمكان التوصل إلى تسوية متوازنة، وأن الوسيط موثوق فيه، ويمكنه تقديم ضمانات تدعم تنفيذ ما يتفق عليه، لا سيما فى المرحلة الأولى المتعلقة ببناء ثقة متبادلة مع الخصم الآخر. وهى كلها شروط ليست متحقّقة حتى اللحظة. والنتيجة استمرار العمليات العسكرية ومزيد من المعاناة الإنسانية ومزيد من الدمار والعقوبات، ما لم يتراجع أحد الأطراف، لا سيما كييف.
المصدر: العربية