ربما كان احتجاز الاحتلال الإسرائيلي لجثامين الأسرى والشهداء الفلسطينيين سواء في الثلاجات أو فيما تعرف بـ “مقابر الأرقام” أسوأ تجربة يمكن أن تعيشها أسرة فلسطينية ووطن كامل له في مقابر مجهولة، لا يعلم مكانها سوى المحتل، عشرات من الجثث، مضى على بعضها عشرات السنوات ولا تزال مرهونة إلى أجل لا يعلمه سوى الله.. مات آباء وأمهات حُرموا من أبسط حقوق الإنسانية بأن يلقوا نظرة الوداع على أحبائهم قبل أن يواروا الثرى.
و”مقابر الأرقام” هي اسم يرمُز إلى مجموعة من المقابر السرية التي تدفن إسرائيل بها جثث أسرى وشهداء فلسطينيين، لا يوجد شواهد لمقابر الأرقام لكن تثبت فوق كل قبر لوحة معدنية تحمل رقمًا مُعينًا بديلا للأسماء، وكل رقم يرتبط بملف خاص لدى سلطات الاحتلال يتضمن معلومات وبيانات خاصة بكل شهيد.
ويرى الفلسطينيون أن إسرائيل تستخدم “مقابر الأرقام” لا لهدف سوى معاقبة ذوي الشهداء كونهم أنجبوا وأخرجوا من بيوتهم من يقاوم الاحتلال ويقض مضاجعه، وتستخدم إسرائيل “مقابر الأرقام” وسياسة التحفظ على الجثامين عمومًا كورقة للمساومة وللضغط على الفصائل الفلسطينية حال وقوع أي جندي إسرائيل في الأسر.
وفي التاسع من شهر سبتمبر 2019، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قرارًا يخول القائد العسكري صلاحية احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين ودفنهم بشكل مؤقت لأغراض استعمالهم كأوراق تفاوض مستقبلية.
ويقول علي أبو هلال المحامي والمحاضر الجامعي في القانون الدولي إن قرار المحكمة الإسرائيلية يُخالف أسس القانون الدولي.
وتشير بيانات الحملة الوطنية الفلسطينية لاسترداد جثامين الشهداء إلى أن الاحتلال يتحفظ على جثامين 254 شهيدًا في مقابر الأرقام، إضافة إلى جثامين 90 شهيدا آخرين في ثلاجات الموتى منذ عام 2016.
ومن أشهر قصص أولئك الذين تتحفظ إسرائيل على جثامينهم، أنيس دولة، وهو من مواليد مُحافظة (قلقيلية) الواقعة في شمال غرب الضفة الغربية عام 1944، وغادر فلسطين ثم عاد إليها ضمن مجموعة كفاحية مسلحة شاركت في عمليات ضد الاحتلال قبل أن يُعتقل في الرابع من نوفمبر 1968. واستشهد دولة في سجن عسقلان الإسرائيلي في الحادي والثلاثين من أغسطس عام 1980، ويرغب شقيقه حسن وهو مُسن يبلغ من العمر 72 عامًا أن يدفن جثمان شقيقه قبل أن يلقى ربه، إلا أن إسرائيل ما زالت تتحفظ على جثمانه وكأنها تخشى ظهوره حتى وهو جثة هامدة.
وهناك حالات لا تحتجز فيها إسرائيل الجثامين لمدد طويلة، كحالة الشهيدة إسراء خزيمية ابنة محافظة (جنين) التي استشهدت برصاص الاحتلال قرب باب السلسلة في البلدة القديمة بالقدس يوم 30 سبتمبر الماضي. وسلم الاحتلال جثمان خزيمية إلى أهلها يوم الجمعة الماضي الموافق 19 نوفمبر بعد قرابة شهرين من التحفظ عليه. وفي اليوم التالي شيعت جماهير غفيرة جثمانها، رحلت خزيمية وتركت ثلاثة أولاد وبنت، أكبرهم 10 أعوام وأصغرهم عامان.
وقال حسن عبد ربه، المُستشار الإعلامي لهيئة شؤون الأسرى والمحررين، لوكالة أنباء الشرق الأوسط، إن هناك أخطاء بالجملة في توثيق الجثامين المُتحفظ عليها لدى الاحتلال، سواء في مقابر الأرقام أو الثلاجات، ضاربًا على ذلك مثالا بجثمان الطفل أمجد أبو سلطان (14 عامًا) من مُحافظة بيت لحم والذي يتحفظ الاحتلال على جثمانه منذ شهر تقريبًا في ثلاجة وعندما قرر الاحتلال تسليمه يوم الجمعة الماضي (19 نوفمبر) سلم جثمان شخص آخر وهو ما دفع والد الطفل إلى رفض استلام الجثمان. وقال الجيش الإسرائيلي حينها إنه سيجري تحقيقا في الواقعة، وبعد يومين تسلم أهل الطفل الشهيد جثمانه.
وقال عبد ربه إن هذه الحالة وهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة تعكس حجم الفوضى والإهمال فيما يتعلق بتوثيق مكان دفن الجثامين وطرق دفنهم ما يحتم إجراء فحوصات الحمض النووي للتعرف على الجثامين مثلما كان الحال في ملف استرجاع جثماني الشهيدين مشهور العاروري وحافظ أبو زنط وهما حالتان يُضرب بهما المثل في سياسة اختطاف الاحتلال لجثامين الشهداء والتحفظ عليها لمدد طويلة للغاية.
وكان العاروري وأبو زنط قد استشهدا على الحدود الأردنية الفلسطينية يوم 18 مايو 1976 خلال عملية نفذتها الجبهة الديمقراطية، واحتجزت إسرائيل جثمانيهما، 34 عامًا و35 عامًا (على الترتيب) فيما تسمى “مقابر الأرقام” داخل الخط الأخضر إلى أن أفرجت عن جثمان الأول بتاريخ 11 أغسطس 2010 وجثمان الثاني بتاريخ 9 أكتوبر 2011.
المصدر: أ ش أ