في مثل هذه الأيام قبل عامين، خسر تنظيم داعش بلدة الباغوز، معقله الأخير في شرق سوريا .
الدولة التي أقامها عام 2014 وامتدت على مساحة توازي تقريباً مساحة المملكة المتحدة ، كانت قد تقلّصت في مارس 2019 إلى بلدة صغيرة واحدة على ضفاف نهر الفرات بريف دير الزور. قاتل داعش في الباغوز حتى الموت، لكنه هُزم.
هل هُزم داعش حقاً ؟ ما هو وضعه اليوم ؟ ماذ يفعل زعيمه ؟ ما مصير فروعه ؟ أين ذئابه ؟ هذا التقرير يحاول الإجابة عن هذه التساؤلات ؟
مع سقوط الباغوز، أعلن الرئيس الأمريكى آنذاك دونالد ترامب، الذي قادت بلاده تحالفاً دولياً ضد داعش ، أن التنظيم “هُزم 100 في المائة”.
أثار كلام ترمب يومها تكهنات بأنه ربما تسرّع في الحكم على «نهاية داعش»، مثلما تسرّع سلفه جورج دبليو بوش عام 2003 بإعلان أن «المهمة أُنجزت» في العراق بهزيمة صدام حسين. صدّام هُزم حقاً آنذاك، لكن الأميركيين سرعان ما وجدوا أنفسهم غارقين في مستنقع عراقي التهم 4478 قتيلاً و32 ألف جريح من جنودهم. كما سمح ذلك «النصر» على صدام بتحويل العراق إلى معقل لمعارضي الأميركيين، من ميليشيات شيعية مرتبطة بإيران أو جماعات سنية سرعان ما هيمن عليها تنظيم «القاعدة».
ومع انسحاب الأميركيين من العراق عام 2011، تمكن تنظيم «القاعدة» من خلال جماعة يهيمن عليها، وتحمل اسم «الدولة الإسلامية في العراق» من استعادة زمام المبادرة، وعاود تمدده في المدن العراقية، بل تمدد أيضاً داخل سوريا المجاورة، مستغلاً الفوضى التي أعقبت بدء الثورة ضد نظام الرئيس بشار الأسد.
وإذا كان بوش قد تسرّع بلا شك في إعلان «إنجاز المهمة» في العراق، فإنه ربما ما زال مبكراً الآن الحكم عما إذا كان ترمب قد تسرّع بدوره في إعلان هزيمة «داعش» 100 في المائة، علماً بأنه كان يقصد آنذاك أن «دولة داعش» قد هُزمت، بحكم أنه لم يعد لها وجود بعد معركة الباغوز، وهو مصيب في ذلك.
- عودة داعش ؟
توحي عمليات داعش حالياً، سواءً في سوريا أو العراق، بأن الوضع يشبه، إلى حد ما، ما حصل مع فرع التنظيم العراقي عام 2011.
آنذاك، كانت «الدولة الإسلامية في العراق» مهزومة، فانكفأت إلى عمق الصحراء والمغاور الجبلية وضفاف نهري دجلة والفرات، حيث أعادت تنظيم صفوفها، قبل الانقضاض على المدن العراقية. وتوحي العمليات المتصاعدة التي يقوم بها «داعش» حالياً بأنه يعيد تكرار التجربة العراقية: تنظيم صفوفه في الصحراء والمغاور، لكنه لم يصل بعد إلى مرحلة محاولة الخروج من مخابئه للسيطرة على المدن.
وعلى رغم أن تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أن عدد عناصر «داعش» حالياً في سوريا والعراق يبلغ قرابة 10 آلاف عنصر، فمن الواضح أن التنظيم لم يقرر بعد الانتقال إلى مرحلة محاولة شن هجمات على المدن والبلدات الكبيرة، مكتفياً بهجمات الكر والفر والتفجيرات والاغتيالات. ولا شك أن «داعش» يعرف أنه بهذا العدد من المقاتلين (الذين يُضاف إليهم آلاف آخرون من خلايا الدعم والمناصرين) يمكنه أن يشنّ هجمات على مدن وبلدات، لكنه يعرف أن مثل هذه الخطوة ستكون بمثابة عملية انتحارية تقضي على عناصره، بحكم امتلاك السلطات السورية والعراقية، من خلال الروس أو الأميركيين، سلاح جو يمكن أنه يقضي على أي قوة مهاجمة أو منسحبة.
- فروع التنظيم
وفي حين يبدو أن «داعش الأم» في سوريا والعراق ما زال حالياً في طور إعادة بناء صفوفه، تبدو صورة فروع التنظيم حول العالم مشوشة بعض الشيء. فبعضها يحقق نجاحاً ويتوسع، في حين البعض الآخر ينحسر ويتلاشى.
ففي ليبيا، تعرض «داعش» لنكسة قوية في عام 2017، بعدما خسر آلاف المقاتلين الذين جمعهم في مدينة سرت، عاصمته على سواحل البحر المتوسط. قاتل التنظيم على مدى 7 أشهر، لكنه هُزم في نهاية المطاف. ومنذ ذلك الحين، بات وجود «داعش» محصوراً في بؤر صغيرة في عمق الصحراء، جنوب ليبيا. وعلى رغم استمرار هجماته، فإن هذه البؤر تقلصت إلى حد كبير.
وفي تونس المجاورة، ينحصر نشاط «داعش» حالياً في مناطق جبلية على الحدود مع الجزائر، بعد فشله في محاولة إقامة «إمارة» في بن قردان، في جنوب البلاد، في مارس 2016.
أما في الجزائر، فقد تمكنت قوات الأمن من القضاء على جماعة «جند الخلافة»، فرع «داعش» المحلي، بعد وقت قصير من بدء عملياته، عام 2014، بخطف سائح فرنسي وقطع رأسه.
وفي شبه جزيرة سيناء، انكفأ فرع «داعش» أيضاً، بعدما شن الجيش المصري عمليات واسعة قضى فيها على مخابئ التنظيم، الذي كان عناصره في مرحلة ما يسرحون ويمرحون بلا رادع في عدد من المدن الكبيرة في سيناء. وعلى رغم التراجع الواضح لفرع «داعش» في سيناء، فإنه ما زال يعلن من فترة لأخرى قتله من يشتبه بتعاونهم مع قوات الأمن.
وفي أفغانستان أيضاً، تراجع نشاط فرع «داعش» المحلي، نتيجة عمليات قامت بها قوات الأمن، بدعم أميركي، إلى معقله في ننغرهار في شرق البلاد، من دون أن يؤدي ذلك إلى تراجع قدرته على إرسال انتحاريين يفجّرون أنفسهم في العاصمة كابل ومدن أفغانية أخرى.
والأمر نفسه ينطبق على الفلبين، التي شهدت توسعاً كبيراً لفرع «داعش»، بعد سيطرته على مدينة مراوي المهمة في جنوب البلاد عام 2017، قاتل «داعش» حتى الموت في هذه المدينة، لكن قوات الأمن الفلبينية استطاعت انتزاعها منه، بعد معارك ضارية أسفرت عن تدمير أجزاء واسعة منها، وقتل قادة التنظيم الأساسيين. ومنذ ذلك الوقت، تراجعت عمليات «داعش» إلى حد كبير، لكنها لم تنته.
في مقابل هذا الانحسار، تمكن «داعش» من التمدد، لا سيما في أفريقيا؛ إذ سجّل توسعاً كبيراً في بلاد الساحل ما وراء الصحراء الكبرى وغرب أفريقيا، حيث يتنافس على النفوذ مع جماعات موالية لمنافسه تنظيم «القاعدة». كما سجل «داعش» حضوراً قوياً في بلدان لم يكن له وجود فيها من قبل، مثل شمال موزمبيق وجنوب تنزانيا، حيث ينشط من خلال جماعة تُعرف بـ«الشباب» أو «أنصار السنّة»، أو في الكونغو الديمقراطية (من خلال تحالف جماعات محلية).
- أبو إبراهيم ـ أبو بكر
بعد أشهر من هزيمة «داعش» في الباغوز، مُني التنظيم بضربة أخرى لا تقل شدة. ففي أكتوبر 2019، نفذت قوات كوماندوس أميركية عملية ضد مخبأ زعيم التنظيم، أبو بكر البغدادي، في ريف إدلب، على مسافة قصيرة من الحدود التركية. قُتل البغدادي في العملية، وخسر «داعش» الوجه الذي ارتبط بصورة التنظيم في أوج ذروته.
اختار «داعش» زعيماً جديداً له باسم أبو إبراهيم الهاشمي القرشي. ورث هذا الرجل «دولة» لا وجود لها سوى على الورق. أما جنوده الذين كانوا يوماً يُعدّون بعشرات الآلاف، فقد تشتتوا بين قتيل ومعطوب وأسير. وبدا تنظيم القرشي هيكلاً عظمياً لتنظيم البغدادي. فمعظم قادته الكبار، الذين صنعوا أسطورة «دولة داعش… الباقية وتتمدد»، قُتلوا في المعارك أو الضربات الجوية. أيضاً، الهزائم التي مُني بها التنظيم على مدى السنوات الماضية، أتاحت لأجهزة الأمن العراقية والسورية بحر معلومات ووثائق واعترافات تشرح تفاصيل عمل التنظيم وهيكليته، وهو ما سمح، كما يبدو، وفي أكثر من مرة، للقوات العراقية باعتقال أو قتل قادة في التنظيم.
وليس واضحاً بعد ما إذا كان انكفاء زعيم «داعش» الجديد، وغياب إصدارته الصوتية أو المرئية، وتركيزه فقط، كما يبدو، على إعادة بناء تنظيمه، سيؤدي إلى وضع مشابه لما حصل مع «القاعدة» وفروعها من قبل. ففي حالة «القاعدة»، أدى اختباء قادة «التنظيم الأم» في وزيرستان، وانقطاع التواصل أحياناً بينهم وبين فروعهم، إلى تضخم دور الفروع على حساب «القيادة العامة»، وهو ما ظهر جلياً من خلال تمرد الفرع العراقي على أوامر القيادة في وزيرستان، على خلفية النزاع في سوريا.
- الذئاب المنفردة
في أوج نفوذ «داعش»، كان هذا التنظيم قادراً على التباهي بأنه لا يحكم فقط «دولة» مساحتها بحجم مساحة بريطانيا العظمى وسكانها أكثر من سبعة ملايين نسمة، بل إن لديه كذلك «جنوداً» حول العالم، يتحولون بكلمة إلى قنابل موقوتة قادرة على قتل وجرح مئات المدنيين في دول الغرب. ضرب «ذئاب داعش» في بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وبلجيكا، والنمسا، وكندا، والولايات المتحدة، وأستراليا، وسريلانكا، والكثير من البلدان الأخرى.
وبعد هزيمة «داعش» وانهيار «دولته»، تراجعت هجمات «الذئاب المنفردة»، وأخذت تتناقص يوماً بعد يوم.
وكان لافتاً أن بريطانيا، التي عانت من سلسلة طويلة من هجمات «ذئاب داعش»، قررت في فبراير (شباط) الماضي، خفض درجة التأهب الأمني درجة واحدة، من «خطير» إلى «كبير»؛ ما يعني أنهم باتوا مقتنعين بأن خطر هؤلاء بات منخفضاً، من دون أن يعني ذلك تجاهل احتمال تجدده كلياً في أي وقت.