يدشن فوز الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن على منافسه دونالد ترامب، بداية تحول جديد في شكل العلاقات والسياسة الخارجية الأمريكية، حيث يبدو العالم مقبلا على مرحلة جديدة من العلاقات الأمريكية الدولية بعدما وعد بايدن بوضع حد للنهج الانعزالي لسلفه الجمهوري ترامب، وهو النهج الذي تسبب في “إرباك العلاقات العالمية للولايات المتحدة” بحسب تعبيره خلال دعايته الانتخابية.
وتكشف القراءة الأولية لتصريحات بايدن، أن الولايات المتحدة لا تتنازل كثيرا عن أهدافها الاستراتيجية في سياستها الخارجية، إذ تسعى للإبقاء على استمرارية نظام الأحادية القطبية الذي يوفر لها الفرصة كقائد للنظام الدولي، خاصة في ظل بروز بعض المتغيرات الدولية مثل: صعود بعض القوى كالصين التي باتت تحتل المركز الأول عالميا من الناحية الاقتصادية، وظهور جائحة كورونا التي كبدت النظام الاقتصادي الدولي الكثير من الخسائر المالية والنقدية.
غير أن المراقبين يرون أن محاولة إدارة بايدن لاستعادة القيادة الأمريكية ستتطلب وقتا ورأس مال سياسي، في وقت أصبح فيه الدور العالمي للقوة العظمى الأولى محل شك في الداخل والخارج على السواء وقبل ذلك ستتوقف قدرتها على فرض رؤيتها لمشاكل العالم وحلولها على شكل موازين القوة في مجلس الشيوخ الأمريكي وهو ما لن يتضح سوى في الخامس من يناير القادم.
فالعالم – وفقاً لرؤية جو بايدن – يبدو في صورة أكثر تقليدية لدور أمريكا ومصالحها يقوم على أساس القيم الغربية المشتركة، وهو أيضا عالم التحالفات العالمية الذي تتزعم فيه أمريكا البلدان الحرة في مواجهة التهديدات العابرة للدول، حيث تعهد بايدن بالعودة لمنظمة الصحة العالمية وهيئات أخرى تابعة للأمم المتحدة، وفضلا عن ذلك هو عالم إعادة إحياء الشركات والتحالفات الأمريكية في أوروبا وشرق آسيا، والتي كانت حجر الأساس للسياسة الخارجية الأمريكية لعقود.
وعلى النقيض من ذلك كان العالم في رؤية ترامب هو عالم “أمريكا أولا”، والتخلي عن الاتفاقات الدولية التي يعتقد أنها لا تحقق للولايات المتحدة مكاسب معقولة، كما أنه عالم يجب أن يكون أحاديا مهما كان مربكا ولا مقام فيه يعلو على المعاملات التجارية التي تكون الولايات المتحدة رابحة فيها وتتم فيها إزاحة المنافسين.
وتبقى قرارات بايدن تجاه هذه الملفات مرتبطة بحسم معركة الغالبية في مجلس الشيوخ في 5 يناير المقبل بانتخابات فرعية مزدوجة في ولاية جورجيا، وما زال هناك مقعدان لم يحسما بعد؛ الأمر الذي قد يقلب الغالبية إلى المعسكر الديمقراطي في مجلس الشيوخ. ولا يمكن إقرار أي قانون من دون مجلس الشيوخ الذي يتمتع أيضا بسلطة الموافقة على التعيينات الرئاسية: الوزراء والسفراء والقضاة، خصوصا في المحكمة العليا.
وإذا بقي مجلس الشيوخ جمهوريا، فسيتعين على جو بايدن استخدام مواهبه للحوار والتفاوض، ويجب أن يتعامل الرئيس المنتخب خصوصا مع ميتش ماكونيل زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، وهو خبير تكتيكي متمرس في سن الثامنة والسبعين، وبعد تحالف استمر 4 سنوات مع دونالد ترمب، ظهر أنه الرجل القوي في المعسكر الجمهوري.
وإذا فاز الجمهوريون في انتخابات مجلس الشيوخ المقررة في 5 يناير في جورجيا، رغم سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب، فإن مجلس الشيوخ سيحد من قدرة بايدن على اتخاذ مبادرات كبرى على صعيد السياسة الخارجية حيث سيكون من الصعب تمويل عملية عسكرية ضخمة طويلة الأمد دون موافقة مجلس الشيوخ.
كما أنه لن يكون بمقدور بايدن توقيع معاهدة دولية كبرى جديدة، لتصبح قانونا أمريكيا دائما دون موافقة مجلس الشيوخ، وسيؤثر هذا على نهج بايدن إزاء مفاوضات الأسلحة النووية مع روسيا والصين، وكذلك المفاوضات الجديدة حول التغييرات المناخية.
ووفقا للمراقبين، فإن عبارات من قبيل”أمريكا أولا” سيحل محلها عبارات أخرى، مثل “العالمية والشراكة” وسيواجه بايدن تحديات تشمل آليات جديدة لمواجهة الصين، وإعادة الدخول في الاتفاق النووي مع إيران، وإعادة ضبط العلاقات مع أوروبا، وإعادة بناء التحالفات الأوروبية التي تجاهلها ترامب طوال فترة رئاسته، ومن المرجح أن يكون ثمة ميلا للتوجه نحو الأطلسي من جديد. فلطالما افتخر بايدن بتراثه الأيرلندي؛ الأمر الذي يؤكد أنه سيسعى لمحو عداء ترامب المعلن للاتحاد الأوروبي، وسيكون بايدن داعما قويا لحلف شمال الأطلسي “ناتو”.
وثمة مجموعة من الثوابت والمتغيرات التي تحكم السياسة الخارجية لبايدن، في مختلف القضايا الشائكة والملفات الإقليمية والدولية على حد سواء، فبالنسبة لملف العلاقات المستقبلية مع الصين، وصف أحد مستشاري بايدن أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب بأنها “الصين ثم الصين ثم الصين ثم روسيا”، حيث تنظر إدارة بايدن الجديدة إلى بكين باهتمام أكبر بكثير مما كانت عليه في عهد ترامب، ولا يزال من غير الواضح طابع مزيج التعاون والمنافسة والمواجهة الذي سيستخدمه بايدن للتعامل مع القوة الصاعدة المنافسة للولايات المتحدة.
ويعتقد بعض المراقبين، أن بايدن سيسعى للتراجع عن الاتفاقيات التي تتحكم في التكنولوجيا والاستثمارات التقنية، وسيحافظ على وجود عسكري أمريكي قوي على أعتاب الصين، لكن يتوقع محللون القليل من الهدوء في الضغط القادم من واشنطن تجاه الصين.
أما فيما يتعلق بخيارات بايدن في الملف النووي الإيراني، فثمة تقارير تشير إلى أن الوعود التي صدرت عن الرئيس المنتخب في الولايات المتحدة جو بايدن بخصوص النووي الإيراني أكد من خلالها أن أسلوبه سيختلف كليا عن أسلوب دونالد ترامب.
وقد تعهد بايدن بالعودة إلى الاتفاق النووي متعدد الأطراف والذي تم التوصل إليه عام 2015 بهدف تحجيم الأنشطة النووية لطهران والذي أعلن ترامب سحب بلاده منه، لكن بايدن تعهد بتقديم مسار دبلوماسي معقول ومتوازن لإعادة طهران إلى الطريق الدبلوماسي مرة أخرى.
وحسب مراقبين فمن غير المرجح أن يوافق بايدن على دفع تعويضات لإيران أو أن يقوم بشكل فوري بإلغاء كل العقوبات التي فرضها ترامب لكن المراقبين يؤكدون أن هناك بعض القرارات السريعة مثل تخفيف العقوبات عن التعامل مع بعض شركات النفط الإيرانية، علاوة على إلغاء تصنيف البنك المركزي الإيراني كمنظمة داعمة للإرهاب.
وعلى صعيد التجارة.. من المرجح أن يواصل بايدن انتهاج سياسة الرئيس ترامب في مواجهة “الممارسات الاقتصادية الضارة” التي تقوم بها الصين، لكن بالاشتراك مع الحلفاء، على عكس تفضيل ترامب لاتفاقيات التجارة الأحادية.
ويعتبر المراقبون أن إدارة بايدن يمكنها على أقل تقدير إزاحة جميع العقبات أمام الدول الأوروبية المشاركة في الاتفاق للحفاظ عليه وإبقاء الالتزامات الإيرانية ضمنه سارية بحيث لا تصبح طهران بحاجة إلى التخلي عن الاتفاق بشكل كلي.
وكذلك يرغب بايدن في إنهاء الحربين طويلتي الأمد في أفغانستان والعراق، وإن كان يريد الحفاظ على وجود عسكري صغير في البلدين للمساعدة في محاربة الإرهاب. وكذلك لن يسعى لخفض ميزانية البنتاجون أو وقف الضربات باستخدام الطائرات المسيرة، رغم ضغوط اليسار.
وفيما يتعلق بملف العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، يعارض الرئيس المنتخب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، رغم قبوله كأمر واقع، ويريد بايدن إقامة علاقات جديدة مع الاتحاد الأوروبي بناء على تحالفات تشاركية، ووعد بايدن بتشديد موقف الولايات المتحدة تجاه روسيا و”فرض عقوبات حقيقية” عليها بسبب انتهاكاتها للمعايير الدولية. ويهدف بايدن بدعمه لقوة الناتو إلى مواجهة روسيا، متعهدا بالوقوف إلى جانب المجتمع المدني الروسي ضد ما يسميه “النظام الاستبدادي الفاسد” للرئيس فلاديمير بوتين.
ومع ذلك، سيتعين على بايدن أن يدشن بسرعة مفاوضات مع موسكو لتمديد معاهدة “نيو ستارت” لتخفيض مستوى التسلح النووي قبل أن ينتهي أجلها في 5 فبراير المقبل.
ورغم ضغوط ترامب على أوروبا، لإجبارهم على المزيد من الإنفاق الدفاعي، وانسحاب القوات الأمريكية من ألمانيا، إلا أن بايدن يتوافق مع الأوروبيين على أن القوة العسكرية الأمريكية التي تدعم الناتو ضرورية لأمن أوروبا.
وهنا تكمن أهمية فوز “كامالا هاريس” بمنصب نائب الرئيس الأمريكي، ما قد يمنحها دور في دعم العلاقات الهندية الأمريكية والعلاقات الهندوباسفيك؛ كون “هاريس” تعود إلى أصول هندية، وهذا ما قد يدفع للتوجه نحو إعادة تفعيل اتفاقية التبادل الحر عبر المحيط الهادي مع دول محور آسيا باستثناء الصين، كما رتب لها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عام 2015 قبل أن ينسفها الرئيس “ترامب” عام 2017 كنوع من وعوده الإنتخابية.
المصدر: أ ش أ