مع قرب انطلاق السباق الانتخابي الأمريكي أوائل نوفمبر المقبل، تزداد أجواء الترقب داخل الأروقة الأوروبية والبريطانية انتظاراً لما ستؤول إليه نتائج الاقتراع الرئاسي الأمريكي، والذي سيلعب دوراً مؤثراً بدرجة كبيرة على مسار المفاوضات المتعثرة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تأثيرها على العلاقات بين ضفتي الأطلسي بعد سنوات من الفتور.
على الصعيد البريطاني، وبالرغم من التحالف الاستراتيجي والتاريخي بين بريطانيا والولايات المتحدة والذي سيظل قوياً بغض النظر عن الفائز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، إلا أن الأحاديث المتداولة مؤخراً بين المسئولين ركزت على أن رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، ينتظر نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية لتحديد مسار مفاوضاته مع الاتحاد الأوروبي الرامية إلى التوصل إلى اتفاق تجاري يحدد علاقات الجانبين بعد إتمام عملية بريكست في 31 ديسمبر المقبل.
ويؤكد المراقبون أن جونسون وأعضاء حكومته يفضلون ولاية ثانية للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والذي يعد من أبرز المتحمسين والمشجعين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ودون ترتيبات تجارية، كما وعد ترامب جونسون بشراكة تجارية ضخمة وسريعة مع بريطانيا فور نهاية الفترة الانتقالية لبريكست بنهاية العام الجاري.
ففي حالة فوز ترامب يتوقع المراقبون أن يميل جونسون إلى خيار “الخروج دون اتفاق” اعتماداً على الصفقة التجارية المهمة التي سيعقدها مع حليفه الأمريكي، والتي قد ترفع تبادل السلع والبضائع بين البلدين إلى نحو تريليون دولار.
أما في حالة فوز المرشح الديموقراطي، جو بايدن، فعلى الأرجح سيسعى جونسون بقوة لإبرام اتفاق تجاري مع بروكسل ، حيث لايتوقع أن تجد الحكومة البريطانية من بايدن حال فوزه، نفس المرونة والتنازلات في المفاوضات التجارية التي تجدها من ترامب.
ويرى المراقبون أن بايدن من أشد المعارضين للتعديل الذي تم على اتفاق “بريكست” الذي وافق عليه البرلمان البريطاني الشهر الماضي، ويعد من وجهة نظره تهديدا لاتفاق “الجمعة العظيمة” بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا ومخالفا لقواعد القانون الدولي، وهو ما أثار استياء المحافظين البريطانيين الذين وجدوا في موقف بايدن تدخلا سافرا وغير مبرر في الشؤون الداخلية لبلادهم.
كما أوضح بايدن أنه لا يكفي الاتفاق مع بروكسل لتبرم لندن اتفاقية تجارة حرة مع واشنطن، فيجب أن تكون المملكة المتحدة بعد الخروج مستقلة وموحدة وأمنها الداخلي مستقر ولا يشوبه أي تهديد بسبب بريكست .
ويبدو أن فوز بايدن المحتمل سيشكل تحديا قويا لاتفاقية “الشراكة التجارية” بين بريطانيا والولايات المتحدة والتي تعد حجر الأساس الذي ستقوم عليه اتفاقات الشراكة مع دول العالم في مرحلة ما بعد “بريكست”، حيث أن توقيع الشراكة التجارية مع أمريكا سيجعل من السهل لبريطانيا التفاوض مع الاقتصادات الكبرى لأن الثقل التجاري الأمريكي وكثرة تواجد شركاتها المالية من شأنه أن يشجع الاقتصادات العالمية الكبرى بتوقيع اتفاقات تجارية مع الجانب البريطاني.
أما على المستوى الأوروبي، تبدو أوروبا أكثر قلقاً من فوز ترامب بولاية رئاسية ثانية، فعلى مدار الأربع سنوات الماضية، أصيبت العلاقات الأمريكية والأوروبية بفتور واضح لاسيما بعد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني ومنظمة التجارة العالمية، فضلا عن توتر العلاقات التجارية بينهما بعد فرض رسوم على واردات الفولاذ والألمونيوم من الاتحاد الأوروبي .
ومن ثم فإن إعادة انتخاب ترامب تزيد المخاوف الأوروبية من إمكانية تصعيد الحرب التجارية بينهما ورفع الرسوم على البضائع الأوروبية المصدرة للأسواق الأمريكية، وهو ما يشكل تحديا مهما للاقتصاد الأوروبي في هذه المرحلة الحرجة التي يعاني خلالها من تداعيات جائحة “كورونا”، فالولايات المتحدة تعد أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي ويقدر حجم التبادل التجاري بينهما بنحو 384 مليار يورو عام 2019، كما ان لديها فائضا تجارياً كبيراً مع الولايات المتحدة وبالتالي فإن إقامة شراكة تجارية قوية بين الجانبين يحظى بأهمية أولية.
في المقابل، يتفق فريق من المراقبين على أن فوز بايدن سيساهم بدرجة كبيرة في رأب الصدع بين ضفتي الأطلسي وتعزيز الشراكة الأميركية الأوروبية من جديد.. فبايدن، المعروف بخبرته الدبلوماسية الطويلة، حريص على إقامة علاقة متوازنة ومتناغمة مع أوروبا التي ينظر إليها كحليف استراتيجي.
وفي هذا السياق، يؤكد الباحث الفرنسي، لورانس ناردون، في جريدة “لوموند” أن فوز بايدن يعني انتهاء سياسة “أمريكا أولا” التي اتبعها ترامب، وعودة السياسة الخارجية التقليدية للولايات المتحدة التي تدعم “التعددية” في مواجهة التحديات الدولية، وإحياء العلاقات الأمريكية الأوروبية لاسيما بعد تعهد بايدن بإعادة الانضمام إلي معاهدة باريس للمناخ في حالة فوزه، والتزام الولايات المتحدة بتحقيق أهداف الاحتباس الحراري الدولية من خلال خفض الانبعاثات، فضلا عن إعادة إطلاق المحادثات النووية مع إيران وإعادة الانضمام إلى منظمة الصحة العالمية وتمويلها من جديد، حيث اقترح بايدن تشكيل ائتلاف بقيادة الولايات المتحدة لتنسيق جهود البحث عن لقاح “كوفيد-19” وعلاجات جديدة.
ويرى الباحث ناردون أن بايدن محاط بمجموعة من المستشارين الذين تربطهم علاقات وثيقة مع الجانب الأوروبي وقد تساعده في إعادة أواصر الود بين ضفتي الأطلسي، وعلى رأس هؤلاء المستشارين طوني بلينكن الذي شغل مناصب رفيعة في إدارة السياسة الخارجية للرئيسين بيل كلينتون وباراك أوباما على مدى ثلاثة عقود ويتحدث الفرنسية بطلاقة، وجولي سميث صاحبة الخبرة الطويلة في ألمانيا والتي تؤمن بضرورة وحتمية عقد شراكة قوية مع الحلفاء الأوروبيين، وجاك سوليفان الذي حصل على الماجستير من جامعة أكسفورد البريطانية.
في ضوء ذلك يٌتوقع أن يولي بايدن أهمية أولية لإعادة الشركة التجارية مع الجانب الأوروبي وأن يمنحها أولوية على الشراكة التجارية مع بريطانيا، وهو ما ظهر بوضوح في تصريحات مستشاره توني بلينكين الذي أكد مؤخرا خلال فعالية عبر الإنترنت استضافتها الغرفة التجارية الأمريكية أن “الاتحاد الأوروبي هو أكبر سوق في العالم، ونرغب في تحسين علاقاتنا الاقتصادية معه”.
كما توقع رؤساء شركات وصناديق استثمار أمريكية وأوروبية، أن فوز بايدن سيصب في مصلحة الاقتصادات الأوروبية وعملات الدول الناشئة وهو ما سيؤدي بدوره إلى زيادة استثمارات الشركات والمصارف الأميركية في أسواق المال الناشئة، فضلا عن زيادة تواجد شركات السيارات الألمانية والصادرات من دول مثل فرنسا وإيطاليا في السوق الأمريكي، خاصة في قطاع المنتجات الفاخرة والماركات التي تشتهر بها هاتان الدولتان.
إضافة لذلك أوضح لورد ريكيتس، السفير البريطاني السابق لدى فرنسا، وفقا لصحيفة أمريكية أن فوز بايدن المحتمل سيجعل بريطانيا تواجه تهميشا واضحا لصالح أوروبا إذ من المتوقع أن يمنح بايدن باريس وبرلين مركز ثقل أكبر في التعامل مع أوروبا على حساب بريطانيا التي ستشهد خروجا من المشهد الأوروبي.
ويبدو جليا من المشهد السابق أن نتائج السباق الانتخابي الأمريكي ستلعب دوراً هاماً في تحديد مسار مفاوضات “بريكست” المتعثرة حاليا وشكل العلاقات الأوروأطلسية المستقبلية وبالتالي فإن كلا الفريقين، بريطانيا والكتلة الاوروبية، ينتظران ماستسفر عنه الانتخابات الاميركية بحذر وترقب.
المصدر: أ ش أ