يجد قادة الاتحاد الأوروبي الذين سيلتقون يومى الخميس والجمعة المقبلين فى بروكسل، أنفسهم بمواجهة إشكالية التعامل مع تركيا المتهمة بانتهاك السيادة البحرية لعضوين في الاتحاد؛ هما اليونان وقبرص.
وسبق لوزراء خارجية الاتحاد، في اجتماعهم الأخير في برلين، نهاية أغسطس الماضى أن أعدوا لائحة عقوبات يمكن العمل بها من أجل دفع تركيا للتراجع عن انتهاكاتها التي تمثلت بإرسال سفينة المسح الجيولوجي «أوروج ريس» إلى المياه اليونانية والسفينة «يافوز» إلى المياه القبرصية.
ولاحقاً، عمدت أنقرة إلى سحب الأولى، وهو ما عد بادرة «خفض التصعيد» مع أثينا، فيما «يافوز» ما زالت مثابرة في البحث عن مكامن الغاز في مياه تعتبرها نيقوسيا مياهاً قبرصية خالصة.
ورغم اجتماع وزراء الخارجية أمس وتناولهم هذا الملف، فإنه يبدو من الواضح أن مسؤولية القرار النهائي سترسو على رؤساء دول وحكومات الاتحاد الـ27، بحيث لم يعد أمامهم من مجال للتأجيل. فمن جهة، لائحة العقوبات جاهزة وهي تستهدف بداية الشركات التركية الضالعة في التنقيب عن الغاز والنفط ومنع البواخر التركية من الدخول إلى الموانئ الأوروبية وإمكانية استهداف قطاعات محددة من الاقتصاد التركي… بحيث تكون هذه العقوبات مختلفة عما فرضه الاتحاد صيف عام 2019 من عقوبات مخففة بسبب التنقيب في المياه القبرصية.
وتقول مصادر دبلوماسية أوروبية في باريس إن العقوبات «يجب أن تكون مؤلمة للاقتصاد التركي إذا أردنا أن تكون مفيدة ورادعة»، الأمر الذي «يحتاج إلى إرادة سياسية قوية» من الطرف الأوروبى.
وبحسب هذه المصادر، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يذهب أبعد من ذلك مثل خفض المساعدات المالية الأوروبية لتركيا وفرملة الاستثمارات في اقتصادها ووضع حد للمفاوضات بشأن «السماء المفتوحة» وتجميد عضويتها في الاتحاد الجمركي، إضافة إلى رفض عزلة دبلوماسية وإغلاق باب انتسابها إلى النادي الأوروبي نهائياً.
ولا شك أن إجراءات كهذه من شأنها دفع السلطات التركية للتفكير ملياً في ما تقوم به والثمن الذي ستدفعه بالنظر لكون 40 بالمائة من صادرات تركيا تذهب إلى الاتحاد الأوروبي ولكونها شريك الاتحاد الخامس تجارياً.
وهكذا، يستطيع الأوروبيون من خلال الأوراق الضاغطة، وفق المصادر المشار إليها، أن يضعوا أنقرة أمام خيارين: مواجهة العقوبات من جهة أو الاستجابة لما طلبوه منها رسمياً مراراً وتكراراً: وقف استفزازاتها وسحب قطعها البحرية والجلوس إلى طاولة المفاوضات. حقيقة الأمر أن أنقرة استشعرت الخطر. فمع اقتراب موعد القمة الأوروبية، عمدت إلى سحب «أوروج ريس» من المياه اليونانية، ووصف الرئيس أردوغان هذه الخطوة، يوم الجمعة الماضي، بأنها «إعطاء فرصة للدبلوماسية».
وبالمناسبة عينها، أكد اردوغان أنه مستعد للقاء رئيس الوزراء اليوناني ثنائياً أو بحضور طرف ثالث. وغرد قائلاً: «نريد أن نعطي الدبلوماسية كل فرصة ممكنة والاستماع لكل دعوة مخلصة».
إلا أن اردوغان أضاف: «بهذه الرؤية سنواصل الدفاع عن كل قطرة ماء وكل شبر من بلادنا حتى النهاية». لكن الطرف التركي، بموازاة لهجة الاعتدال، لم يفته تحذير الأوروبيين من اللجوء إلى فرض عقوبات.
وجاء على لسان الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين أن «الأجواء أصبحت في هذه المرحلة أكثر ملاءمة بكثير لبدء مفاوضات» مع اليونان، مضيفاً أن «المحادثات الاستكشافية قد تبدأ من جديد». إلا أن كالين سارع إلى تنبيه بروكسل من أن «التهديد بالابتزاز أو بفرض عقوبات على تركيا لا يحقق نتائج»، وأنه «من المفترض أن يكون الساسة الأوروبيون أدركوا ذلك».
يبدو واضحاً أن تركيا عدلت لهجتها سعياً وراء إحداث انقسام داخل المنظومة الأوروبية، ومنعها بالتالي من الاستفادة من قمة اليومين المقبلين لفرض العقوبات المشار إليها. وليس سراً أن ثلاثة تيارات تعتمل القادة الـ27: الأول، يدعو إلى التزام التشدد وعدم التأجيل في فرض العقوبات.
وثمة ثلاث دول تدفع بشدة في هذا الاتجاه هي اليونان وقبرص وفرنسا وتحظى بدعم ثلاث أو أربع دول إضافية. وحرصت باريس على تنظيم قمة للبلدان الأوروبية المتوسطية السبع في جزيرة كورسيكا لتشكيل مجموعة ضاغطة داخل الاتحاد. والمجموعة الثانية تريد تغليب العمل الدبلوماسي باعتبار أن اللجوء إلى العقوبات سيقضي على الوساطة الأوروبية التي تقودها ألمانيا وسيدفع تركيا إلى الرد ربما من خلال فتح حدودها أمام اللاجئين باتجاه اليونان وعبرها إلى الدول الأوروبية الأخرى.
وتعتبر هذه المجموعة ومن بينها بلدان أوروبا الوسطى أن تدفق اللاجئين لن يكون مقبولاً. إلأ أن الأهم أن معارضة برلين للخط المتشدد يضعها في مواجهة باريس.
وتاريخياً، يشكل المحور الفرنسي – الألماني قاطرة الاتحاد الأوروبي. وكان لافتاً أن برلين لم تتردد في انتقاد فرنسا علناً بسبب نشرها قوات بحرية وجوية إلى جانب اليونان، معتبرة ذلك تصعيداً. أما المجموعة الثالثة، فإنها بقيت بعيدة أو محايدة بمعنى أنها لا تجد نفسها معنية.
وبأي حال، فإن فرض عقوبات يفترض الإجماع وهو ما لا يبدو متوافراً.
ونقل عن دبلوماسيين ألمان أمس، أن فرض عقوبات في هذه المرحلة «لا يبدو مناسباً»، خصوصاً أن محادثات «تقنية» جرت برعاية الحلف الأطلسي في العاصمة البلجيكية لخفض التصعيد بين اليونان وتركيا، وأن الضغوط الأمريكية التي مارسها الوزير مايك بومبيو فعلت فعلها بعد فترة من «النأي بالنفس» الأميركي. وبشكل عام، ثمة اعتقاد بأن واشنطن لن تقبل بأن تصل الأمور إلى حد الاشتباكات المسلحة بين عضوين أطلسيين، قبل أسابع قليلة من الانتخابات الرئاسية الأمريكية .