تبدأ اليوم الأربعاء محاكمة 14 شخصًا من المتهمين بمساعدة المسلحين الذين استهدفوا صحيفة “شارلي ايبدو” الأسبوعية ومتجرًا يهوديًا في باريس في يناير 2015، والذي أسفر عن مقتل 17 شخصًا من طاقم تحرير الصحيفة وعناصر شرطة وزبائن المتجر اليهودي.
ويواجه هؤلاء الأشخاص تهمًا عديدة من بينها توفير الأسلحة للمهاجمين، والانتماء إلى منظمة إرهابية وتمويل الإرهاب، ومن بين الـ 14 متهمًا سيحاكم ثلاثة غيابيًا، وكانت قوات الشرطة الفرنسية نجحت في تصفية المسلحين الثلاثة المتهمين بتنفيذ الهجمات في مواجهات منفصلة.
وأعلن تنظيم “القاعدة” وقتها مسؤوليته عن هجوم “شارلي ايبدو”، في الوقت الذي أفاد أحد المسلحين أن الهجمات كانت منسقة ونفذت لحساب تنظيم “داعش”.
وتعد هذه المحاكمة هي الأولى من نوعها لهجوم إرهابي في فرنسا منذ عام 2017، والذي تم فيه الحكم في قضية الهجمات الإرهابية التي شنّها محمد مراح باسم تنظيم “القاعدة” في مدن تولوز ومونتوبان في مارس 2012، وأدت إلى مقتل 7 أشخاص بينهم 3 أطفال.
كما تعد هذه المحاكمة أول محاكمة متعلقة بالإرهاب يتمّ تصويرها وذلك انطلاقا من “أهمّيتها للأرشيف القضائي”، ومن المقرّر أن تستمرّ أعمالها حتّى 10 نوفمبر المقبل.
في هذه المناسبة، أوضح الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، في حوار له مع إحدى قنوات التلفزيون الفرنسي أول أمس، أنّ الإرهابيين فشلوا في تقسيم المجتمع الفرنسي من خلال الاعتداءات التي نفذت في يناير 2015، وأنهم لم ينجحوا في محاولتهم لتأجيج الكراهية الدينيّة والعنصريّة، مشيرًا إلى أنّ ردّ فعل المجتمع الفرنسي “كان لافتًا”.
كما أكد أولاند، في حوار آخر مع صحيفة “لاكروا” الفرنسية، على أهمية هذه المحاكمة بالنسبة للفرنسيين الذين لهم الحق في معرفة كل ما يخص هجمات 2015 فعلى الرغم من مقتل مرتكبي هذه الهجمات إلا أنه لايزال هناك متهمين قاموا بمساعدتهم ومدهم بالأسلحة.
ولفت أولاند إلى أن عدم إجراء المحاكمة كان سيزيد من معاناة وألم أهالي الضحايا مشيرا إلى أنه دائما يستمع إلى حواراتهم التي لا يطالبون فيها بانتقام ولكنهم يتطلعون إلى معرفة الحقيقة، والتعرف على ما يستهدفه هؤلاء الإرهابيين سواء فيما يخص شارلي ايبدو، أو حرية التعبير، أو قيم الجمهورية الفرنسية، أو مبادئ العلمانية.
وأحدث هجوم “شارلي ايبدو” زلزالا كبيرا على الساحة الفرنسية، حيث أصيب المواطنون بحالة من الصدمة والذهول على إثر هذه الهجمات الدامية، وخرج الملايين من المتظاهرين إلى الشوارع احتجاجاً على هذا العمل الإرهابي، رافعين الشعار الشهير “أنا شارلي”، وانضم إليهم الرئيس الفرنسي حينذاك، فرنسوا أولاند، مع عدد من قادة الدوليين في مسيرة حاشدة في العاصمة الفرنسية باريس، للتأكيد على نبذ العنف والإرهاب.
وشكَل هجوم “شارلي ايبدو” نقطة تحول فاصلة في تاريخ البلاد حيث أنه كان بمثابة حلقة البداية لسلسة من العمليات الإرهابية الدامية التي تعرضت لها فرنسا وخلفت أكثر من 250 قتيلا، وكان أبرزها هجوم 13 نوفمبر 2015 الذي يعد أسوأ اعتداء إرهابي في تاريخ فرنسا وأوروبا وأسفر عن مقتل 130 شخصًا وإصابة 350 آخرين في عدة مواقع فرنسية مستهدفة، وأعلن تنظيم “داعش” الإرهابي مسؤوليته عن الهجمات.
ونتيجة لمجمل الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا خلال السنوات الأخيرة، أصبحت قضية الإرهاب على رأس أولويات البلاد، لذلك حرصت السلطات الفرنسية على حشد جهودها على مختلف الأصعدة بالتعاون مع شركائها الدوليين بهدف محاربة الشبكات الإرهابية على أراضيها وفي الخارج، فضلا عن اتخاذ كافة الإجراءات الجنائية اللازمة لوقف تمويل الجماعات الإرهابية، وتجميد الأصول الماليَّة لهم.
في هذا السياق أعلن وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانيان، أمس أن التهديد الإرهابي في فرنسا “لا يزال مرتفعا” موضحا أن “الخطر الإرهابي يظل التهديد الرئيسي الذي تواجهه البلاد وأن مكافحته أولوية للحكومة.
وأوضح دارمانيان أنه “رغم الهزيمة العسكرية لتنظيم داعش إلا أن التهديد من الخارج ، أي العمل الإرهابي المخطط له في الخارج والمنفذ في فرنسا، حتى وإن تراجع يجب أن نخصص له دائما كل اهتمامنا”.
ومن متابعة المشهد يمكن القول أنه على الرغم من استمرار خطورة المجموعات المتطرفة على فرنسا والقارة الأوروبية بأكملها، إلا أنه يبدو واضحا أن القدرات العملياتية لهذه المجموعات تراجعت مؤخرا حيث أكدت أجهزة الاستخبارات الفرنسية أن قدرات هذه المجموعات على التحرك في أوروبا والتواصل مع مؤيديها أصبحت محدودة، مستبعدين إمكانية تنفيذ عمليات في فرنسا يتم إعدادها وتخطيطها وتمويلها في الخارج، على غرار هجمات الـ13 من نوفمبر.
واتساقا مع هذا السياق، تكثف الأجهزة الأمنية الفرنسية جهودها لمنع أي محاولات لإحياء نشاط العناصر الإرهابية بالنظر إلى قدرة هذه التنظيمات على إعادة تنظيم نفسها من جديد.
ووفقا لتقرير للأمم المتحدة في منتصف يوليو الماضي، فإن “الخطر الإرهابي على المدى القصير زاد في مناطق النزاعات وانحسر في مناطق السلام”.
وهنا توقع فريق من المحللين استهداف المصالح الفرنسية خارج البلاد مع انحسار أعمال المتطرفين داخليا، موضحين أن منطقة غرب أفريقيا تشكل إحدى مناطق الخطر الرئيسية المستهدفة من قبل التنظيمات الإرهابية، حيث تقود القوات الفرنسية تحالف دول الساحل والصحراء منذ عام 2013، من خلال نشر 5100 جندي فرنسي لمحاربة الجماعات الإرهابية في المناطق الشمالية من مالي.
ويوضح المحللون أن أعمال العنف التي ترتكبها الجماعات المرتبطة بتنظيمي “القاعدة” و”داعش” تصاعدت مع تدهور الوضع الأمني تدهورًا ملحوظًا العام الماضي، وزادت الأوضاع سوءًا بعد مقتل زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب، خلال عملية عسكرية فرنسية بشمال مالي في يونيو الماضي والتي أعقبها مقتل ستة فرنسيين عاملين في الحقل الإنساني في 9 أغسطس الماضي جنوب شرقي نيامي، في هجوم نفّذه مسلحون على دراجة نارية، ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها عنه.
في ضوء المشهد السابق، يمكن القول أنه وبعد خمس سنوات من هجوم “شارلي ايبدو” الذي شكل نقطة انطلاق لعمليات إرهابية غير مسبوقة، فإن الإرهاب لايزال يتصدر أولويات فرنسا. ورغم الإنجازات الملحوظة التي حققتها البلاد في محاربة التنظيمات الإرهابية إلا أن الخطر قائم وتزداد حدته في استهداف المصالح الفرنسية في الخارج أكثر من الداخل وهو ما يجعل من محاربة التطرف والإرهاب تحديًا صعبًا ومستمرًا للحكومة الفرنسية.
المصدر : أ ش أ