هل علينا وعلى الأمة الإسلامية عام هجري جديد وبمناسبة هجرة النبي “صلى الله عليه وسلم”، التي كانت بمثابة دروس إسلامية حياتية، قدمها النبي، صلى الله عليه وسلم، لسائر الناس، ومن هذه الدروس الإيثار والمؤاخاة، التي نفتقدها اليوم في البيت الواحد، والأسرة، ونشعر بالحرمان منها، فالخلافات التي بيننا ذهبت بعزتنا وذهبت بكرامتنا، وذهبت بالإنسانية التي تعلمناها من النبي، “صلى الله عليه وسلم”، فمن منا لا يزال يعفو ويصفح؟! ومن منا لا يفرح بذلة لأخيه؟! ومن منا لا يتمنى سقطة مسلم حتى يصعد عليها؟! كم نحتاج إلى مدرسة النبي، “صلى الله عليه وسلم”، في إعادة هذه الدروس المفتقدة في تلك الأيام.
مشاركة في الإيمان
ويقول الدكتور عبدالغني الغريب طه، أستاذ ورئيس قسم الفلسفة، بجامعة الأزهر، إن العفو والصفح، من أهم المحاور التي نتذكرها من هجرة النبي، “صلى الله عليه وسلم”، خاصة محور العفو والصفح الجميل، عنوان أصيل للسلام، ويقضي على البغضاء والكراهية بين الناس، ونحن بحاجة إلى تعميق معنى الأخوة، بيننا مشاركة في الإيمان، وبيننا ركعات ودعوات ودمعات قد بكيناها للواحد الأحد، هذه المشتركات ينبغي أن تقرب بين قلوبنا، ينبغي أن ننزع الغل والبغضاء الذي في صدورنا على بعضنا، ينبغي أن نبحث عن هذه العلاقة المفقودة.
ويقول المولى عز وجل: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، ولذا يجب أن نبحث في كيفية تمتينها؟ إنك لا تجد مسلمًا اليوم إلا ومعه خلاف مع مسلم آخر، ومادامت هناك خصومات، ومادامت هناك بغضاء فأنت معدوم الإيمان بالله عز وجل.
الإيثار
وأضاف، د. الغريب، الإيثار على النفس من مدرسة الهجرة النبوية، وسيدنا عبدالله بن عمر كان يقول “والله لو أنفقت أموالي بكاملها في سبيل الله، وقمت الليل لا أنام، وصمت النهار لا أفطر، ثم لقيت الله وأنا لا أحب مسلما في الله، لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار”، ولذا قال المولى عز وجل: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، فالموت دار وكل الناس داخله، والدار جنات عدن إن عملت بما يرضي الإله، وإن خالفت فالنار، هما محلان، ما للمرء غيرهما، فاختر لنفسك أي الدار تختار.
الإخلاص في العمل
وأوضح، د. الغريب، أن المحور الثاني، من دروس الهجرة، أن الإخلاص في العمل هو أساس النجاح، فبعد هجرة النبي وأصحابه من مكة إلى يثرب لم يتبق في مكة إلا عدد قليل من المسلمين لم يهاجروا لمرضهم وكبر سنهم، وكان من بين هؤلاء الصحابة الذين حبسهم المرض وكبر السن الصحابي الجليل: ”ضمرة بن جندب” الذي لم يستطع أن يتحمل مشقة السفر وحرارة الصحراء فظل في مكة مرغمًا، ولكنه (رضي الله عنه) لم يتحمل البقاء بين ظهراني المشركين فقرر أن يتحامل على نفسه ويتجاهل مرضه وسنه، وبالفعل خرج ضمرة بن جندب وتوجه إلى يثرب، وأثناء سيره في الطريق اشتد عليه المرض، فأدرك أنه الموت، وأنه لن يستطيع الوصول للنبي وأصحابه فوقف -رحمه الله- وضرب كفا على كف وقال وهو يضرب الكف الأولى: اللهم هذه بيعتي لك، ثم قال وهو يضرب الثانية: وهذه بيعتي لنبيك ثم سقط ميتا .. فنزل جبريل (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وسلم) يخبره بما حدث لضمرة ثم نزل قول الله تعالى:
(وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) فجمع النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه وأخبرهم بشأن ضمرة وقال حديثه الشهير: (إنما الأعمال بالنيات )، فحاز ضمرة شرفا لم يحزه غيره بأن نزل فيه قرآن وسنة.
العمل مع الله لا يشترط فيه أن تصل للهدف، ولكن يكفيك أن تموت وأنت تعمل وتسير في الطريق إليه مادامت نيتك لله عز وجل.
وأشار، د. الغريب، إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب في المسجد، وكان يدرس في المسجد، ودلالة على أن الإنسان خلق من أجل العمران، وكان المسجد مقرا لاستقبال الوفود، وعلم المسجد بركة، ونور، وعلم المسجد أقوم.
يقول البعض منا اليوم: إن المسجد اليوم للغسل، وللوضوء، وللحيض وللنفاس، مال المسجد والاقتصاد؟ مال المسجد والتعليم؟ دعوا هذه الأمور، فالمسجد لا علاقة له بهذه الأمور.، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب في المسجد، وكان أخطب خطباء الدنيا على الإطلاق وأفصح فصحاء العالم، وحل مشاكل الدنيا كلها من خلال المسجد. حل مشكلة التخطيط في السياسة الاقتصادية، كما هو واضح من خلال الخطة الخمس عشرية من قصة يوسف الصديق عليه السلام، وكيف كانت هذه الخطة سببا في إنقاذ مصر وما حولها من الأقطار من مجاعة مهلكة، كما استخدم النبي، صلى الله عليه وسلم لأسلوب الإحصاء. علم الإحصاء الذي يدرس اليوم في كليات التجارة المخترع له: محمد صلى الله عليه وسلم، وليس الغرب، فمنذ عهد مبكر من حياة المسلمين في المدينة والرسول يستخدم هذا العلم.
فقد روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم، بعد الهجرة أمر بعض الصحابة أن يحصي له عدد الذين دخلوا في الإسلام ، فأحصوهم، وكان تعدادهم في ذلك اليوم: خمسمائة وألف، إقراره صلى الله عليه وسلم، لمبدأ التجربة في الأمور الدنيوية والأخذ بنتائجها، وإن كانت مخالفة لرأيه صلى الله عليه وسلم كما وقع في حادثة: تأبير النخل وقال لهم صلى الله عليه وسلم: أنتم أعلم بأمور دنياكم.
كما حل الرسول، صلى الله عليه وسلم، في المسجد مشكلة الصناعة ودورها في الحياة، حتى إنه شرح لهم أن رسل الله كانوا أصحاب حرف وصناعات، فنوح عليه السلام، شيخ المرسلين: يصنع السفن، وإبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام: بناءان يرفعان القواعد من البيت، وداود، عليه السلام: يصنع الدروع ويلين له الحديد، وذو القرنين: يقيم السد العظيم من الحديد والنحاس المذاب.
وكان أحمد شوقي رحمة الله عليه يقول في مدحه:
وَإِذا رَحِمتَ فَأَنتَ أُمٌّ أَو أَبٌ”
“هَذانِ في الدُنيا هُما الرُحَماءُ
وَإِذا غَضِبتَ فَإِنَّما هِيَ غَضبَةٌ”
“في الحَقِّ لا ضِغنٌ وَلا بَغضاءُ
وَإِذا رَضيتَ فَذاكَ في مَرضاتِهِ”
“وَرِضا الكَثيرِ تَحَلُّمٌ وَرِياءُ
وَإِذا خَطَبتَ فَلِلمَنابِرِ هِزَّةٌ”
“تَعرو النَدِيَّ وَلِلقُلوبِ بُكاءُ
ومعنى إذا خطبت: أي إذا خطبت يا رسول الله فإن الناس في المسجد بين باكٍ ومتأوه لأن كلامه كان يخرج من قلبه، كان كلامه الصدق، لم يكن عنده ألغاز و لا أحاجي و لا ألغام و لا عقد، فكان إذا خطب حرك القلوب وأنهض المشاعر.
ولهذا قال “جولدزيهر” المستشرق المجري اليهودي: والله أنا لا أعجب أن محمداً رسول الله من عند الله إلى الناس، فقد بعث الله من قبله رسلاً إلى قومهم وأنبياء إلى أهلهم، إنما أعجب أشد العجب أن هذا الرجل كان أميا ما درس في مدرسة ولا تعلم في جامعة، ولا كان في بلد فيها حضارة، كان صلى الله عليه وسلم يخطب في المسجد، وكان يُعلم في المسجد، وفي المسجد ظهرت الأمة والأئمة الكبار.
إدارة الأزمات
ويقول الشيخ أحمد ربيع الأزهري، من علماء الأزهر، وأئمة وزارة الأوقاف، إن حادث الهجرة حدث فارق في الإسلام، بدليل أنه أُرخ به لتقويمها، ومدرسة كبرى نتعلم في رحابها كيف تكون إدارة الأزمات وتأسيس المجتمعات، وصناعة القيم، وتأسيس قيم التعايش، والمواطنة واحترام سنن الاختلاف والتنوع، ويبرز في الهجرة أهمية توزيع الأدوار، والأخذ بالأسباب مع صدق التوكل على مسبب الأسباب، ويجب أن يكون إدارة الأزمات بالقيم، فكان “علي بن أبي طالب” ينام مكان الرسول لرد الأمانات، وقت الأزمة، لقوم يتآمرون على قتله!! وأهمية اتخاذ القرار والاعتماد على الأكفاء أرباب الكفاية.
التخطيط الجيد
وحذر الشيخ ربيع، من عشوائية القرارات، وأهمية التخطيط الجيد، فلم تكن الهجرة قرارا عشوائيا، أو لحظيا، بل هو مخطط، له بداية من بيعة العقبة الأولى والثانية، وهجرة الصحابة للمدينة هجرة إيمان بعدما هاجر بعضهم للحبشة هجرة أمان، ولذا وجب وضع بدائل للخطط للانتقال من دائرة، إلى دائرة أخرى، وصولا للأهداف المرجوة، كما أن النبي بهجرته للمدينة أسس النموذج الكامل في كيفية بناء الأمم وصناعة الحضارة، فقد قام بنزع موروث الحقد والكراهية من الذاكرة الجمعية للمجتمع عندما أزال ما بين الأوس والخزرج من أحقاد.
قيم المواطنة
وأوضح الشيخ ربيع، أن التعاون مع الآخر له أهمية، جاء ذلك في (وثيقة المدينة) مع اليهود تأسيسا لقيم التعاون والتشارك في الحفاظ على الأرض تحت شعار (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وتعد هذه الوثيقة أول وثيقة إنسانية تؤسس للعمل المشترك برغم الاختلاف وتطلق الحريات بكل أشكالها، وهو ما يعرف الآن بقيم المواطنة.
إن ذكرى حادث الهجرة يجب أن تنتقل بنا من المفهوم الضيق للهجرة لمفهوم أوسع وأكبر فننتقل من التخلف للتقدم ومن الجهل للعلم ومن التفرق والتشرذم إلى الاتحاد والتعاون ومن الصدام إلى التعارف.