تقف العلاقات الصينية الأمريكية حاليا عند أدنى مستوى لها منذ نحو 50 عاما حينما بدأ الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون حوارا مع الصين عام 1971، حيث يلوح في الأفق في الوقت الراهن شبح “حرب باردة جديدة” بين واشنطن، التي تعتقد أنها تجيد التحكم في خيوط هذه الحرب لسابق خبراتها بها، وبين بكين التي يراودها “حلمها الخاص”، الذي يلتف حوله مليار و400 مليون شخص بإقامة مستقبل مشرق لرخاء الدولة وبناء مجتمع رغيد في جميع نواحي الحياة، ولن تتخل عنه مطلقا لأنه الأساس الذي يربط كيانات الدولة شاسعة المساحة بمختلف قومياتها.
فالولايات المتحدة دأبت خلال الفترة الماضية على مهاجمة وانتقاد الصين في عديد من الملفات والقضايا، لاسيما الأوضاع في منطقة “هونج كونج” الإدارية الخاصة، ومنطقة “شينجيانغ” الويغورية ذات الأغلبية المسلمة، وبحر الصين الجنوبي، ونظام الحكم الاشتراكي، وشركاتها للتكنولوجيا والجيل الخامس، وامتد الأمر إلى اتهامات بسرقة حقوق الملكية الفكرية ومحاولة سرقة أبحاث تتعلق بأبحاث حول لقاحات مرشحة لمكافحة وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) وأسرار تجارية وعسكرية، وكذلك اتهامات باستغلال ممثلي وسائل إعلامها في الولايات المتحدة في أنشطة دعائية للصين لتقوم واشنطن بتصنيف هذه الوسائل كبعثات أجنبية، ووجود ما وصفته بـ”أنشطة تجسس” في القنصلية الصينية العامة في هيوستن لتقوم الإدارة الأمريكية بإغلاقها في واحدة من أكبر المؤشرات على حجم التدهور في العلاقات.
واعتبر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في أكثر من خطاب وتصريح على مدار الأشهر الماضية، أن المنافسة مع الصين “صراع وجودي بين الحق والباطل”.
كما ألقى مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي روبرت أوبراين ومدير مكتب التحقيقات الفدرالي “إف بي آي” كريستوفر راي، والمدعي العام الأمريكي ويليام بار، خطابات موجهة ضد الصين تضمنت اتهامات بشكل مكثف، وانتقادات لاذعة للحزب الشيوعي الصيني الحاكم والنظام الاجتماعي للصين مع محاولة تصوير أن الشعب الصيني والحزب الشيوعي يقفان في موقع مخالف لبعضهما البعض.
ووصل الأمر إلى أن وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر أكد أن الولايات المتحدة تخوض حاليا حقبة من التنافس بين القوى العظمى، ما يعني أن أكبر منافسين استراتيجيين للولايات المتحدة، هما الصين ثم روسيا، واعتبر أن الصين هي المشكلة الأكبر، وأن بكين تسعى إلى إعادة صياغة قواعد النظام الدولي الذي يعمل بشكل جيد للغاية من أجل مصلحة دول العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وتعيد هذه التصريحات والاتهامات، التي يكيلها مسؤولو الإدارة الأمريكية للصين، إلى الأذهان اللغة التي استخدمتها واشنطن خلال مواجهتها مع الاتحاد السوفييتي إبان فترة الحرب الباردة.
وفي المقابل، اتخذت الصين تدابير مضادة قوية، تضمنت إغلاق القنصلية العامة الأمريكية في تشنغدو، وإجراءات ضد مكاتب مؤسسات إعلامية أمريكية في الصين، وتقديم احتجاجات شديدة رفضا للتدخل في شؤونها الداخلية بشأن “هونج كونج” و”شينجيانغ”، وتأكيد موقفها من الهجمات السيبرانية وحقوق الملكية الفكرية، ورفضها أي محاولات لما وصفته بـ”الوقيعة” بين شعبها والحزب الحاكم، مع إصدارها بشكل دوري تقارير حول أوضاع حقوق الإنسان في الولايات المتحدة.
وقال عضو مجلس الدولة وزير الخارجية الصيني وانغ يي، في تصريحات أوائل الشهر الجاري، “إن الصين تعارض بشدة ما يسمى بـ”الحرب الباردة الجديدة”، لأنها تنتهك تماما المصالح الأساسية للشعبين الصيني والأمريكي، وتنحرف تماما عن اتجاه التنمية والتقدم العالميين، معتبرا في الوقت نفسه أن “الحرب الدبلوماسية” لا تثبت قوة أمريكا.
وأضاف أن بعض الساسة الأمريكيين يلفقون أكاذيب مختلفة لتشويه سمعة الصين، ويختلقون الحجج لعرقلة التبادلات الطبيعية بين الجانبين، ويريدون جر الدولتين إلى الصراع، ودفع العالم إلى الاضطراب والانقسام مرة أخرى، وأن الصين، بصفتها أكبر دولة نامية في العالم وعضوا دائما بمجلس الأمن الدولي، ستواصل اتباع مسار التنمية السلمية بثبات والتمسك باستراتيجية الانفتاح متبادلة المنفعة ونشر السلام العالمي.
وأكد وانغ يي، في لهجة تعكس استعداد بلاده لجميع الاحتمالات حيال العلاقات مع واشنطن، أن الصين لا تنوي الدخول في “حرب دبلوماسية” مع الولايات المتحدة التي من شأنها أن تضر فقط بمصالح الشعبين بشكل أكبر، وأنه إذا أصرت الولايات المتحدة على أن تسلك ما وصفه بـ”الطريق الخاطيء”، ستكون الصين مستعدة للرد بشكل مناسب.
كما ظهرت أصوات في الولايات المتحدة يتقدمها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو تتحدث عن “فشل” النموذج الذي تبنته الحكومات الأمريكية المتعاقبة للارتباط بالصين، وهو ما اعتبره مسؤولو الصين أن هدفه محاولة “احتواء الصين وتعطيل خطى تنميتها”، وأن أي شخص يحاول إيقاف مساعي تحقيق التنمية الصينية أو تغييرها (الحلم الصيني) محكوم عليه بالفشل والهزيمة.
وتنظر الصين، من جانبها، إلى التصريحات والإجراءات الأمريكية باعتبارها محاولة لوأد “حلمها” والمساس بكيانها ووجودها ونظامها، حيث أن حلم الصين قائم على بناء جسر مباشر بين الحزب الشيوعي الحاكم والشعب عبر توحيد سياسات الحزب مع تطلعات الشعب.
وحيث أن الصين، أصبحت بعد حرب الأفيون عام 1840 دولة شبه مستعمرة وإقطاعية، ما فرض على القيادات الصينية المتعاقبة رسم “حلم” يمتد لحوالي مائتي عام ليلتف حوله الشعب الصيني بكافة مكوناته، والذي يتمثل في السعي لنيل الاستقلال الوطني والتحرر الشعبي خلال المائة عام الأولى، وتحقيق رخاء الدولة وازدهارها والثراء المشترك لأبناء الشعب بحلول عام 2050 على أقصى تقدير (المائة عام الثانية).
واستطاعت الصين خلال 70 عاما من المئوية الثانية أن تتحول من دولة كانت بالكاد تستطيع إطعام شعبها قبل 70 عاما، إلى دولة تعمل حاليا على إنجاز بناء مجتمع رغيد في جميع نواحي الحياة.
فعلى سبيل المثال، تطور الاقتصاد الصيني بشكل كبير ازداد معه إجمالي قيمة الناتج المحلي عام 2018 بـ174 ضعفا عما كان عليه عام 1952، وأصبح الاقتصاد الصيني عام 2010 الثاني في العالم متجاوزا اليابان مع توسع الانفتاح الصيني على الخارج، ووصل إجمالي حجم التصدير عام 2018 إلى 4,6 تريليون دولار ليسجل زيادة بنحو أربعة آلاف ضعف عما كان عليه قبل 70 عاما، فيما كان نصيب الفرد من الدخل القابل للتصرف للسكان عام 1956 نحو 98 يوان فقط، ونصيب الفرد من الإنفاق الاستهلاكي 88 يوان فقط، فأصبح في عام 2018 نصيب الفرد من الدخل القابل للتصرف للسكان 28228 يوان، ونصيب الفرد من الإنفاق الاستهلاكي 19853 يوان.
ويرى المستشار بالأمم المتحدة وأستاذ الاقتصاد بجامعة كولومبيا الأمريكية جيفري ساكس، في مقابلة أجراها مؤخرا مع وسائل إعلام أمريكية، أن تأجيج حرب باردة جيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين سيكون “خطأ فادحا”، حيث أن هذه الحرب ستكون أكثر خطورة من سابقتها، رغم اعتقاد الكثير من الأمريكيين أنهم يمسكون بزمامها، وهي وجهة نظر خطيرة للغاية في التفكير.
واعتبر ساكس أن مهاجمة الصين أصبحت استراتيجية يتبعها الحزبان الجمهوري والديمقراطي لتحقيق مكاسب سياسية في الولايات المتحدة، لكن الحرب الباردة الجيوسياسية مع الصين ستهدد الأمن العالمي في فترة مضطربة بالفعل مع استمرار انتشار جائحة (كوفيد-19) في جميع أنحاء العالم.
كما يرى الأستاذ المشارك في معهد العلاقات الدولية بجامعة رنمين في الصين دياو دا مينغ أنه في مواجهة الصعوبات الداخلية والخارجية، ومن أجل الحفاظ على ما يسمى بالقيادة الدولية للولايات المتحدة، عادت واشنطن إلى ما وصفه بـ”النص المسرحي للحرب الباردة” التي تظن أنها تجيده، محاولة صنع تهديد خارجي ضخم لزيادة التضامن الداخلي وكسب الدول الغربية إلى جانبها.
وفي ظل النهج الأمريكي الحالي نحو الصين وارتباطه بشواغل جيوسياسية عديدة، وتأكيد بكين أن أكثر ما تهتم به هو تحسين رفاهية شعبها دون أي رغبة في تحدي أو استبدال مكانة “الهيمنة العالمية” للولايات المتحدة أو التدخل في الانتخابات العامة هناك، فإن أي مساع لتشكيل تحالفات عالمية قطبية جديدة ونبذ التعددية لن تعود بالفائدة على شعبي البلدين وشعوب العالم، وسيكون العالم على مستويات السلام والاستقرار والتنمية الأكثر تضررا.
المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)