تتجه العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين نحو مزيد من التوتر في منطقة بحر الصين الجنوبي، وبات كل طرف يدير الأزمة مع الآخر وفق استراتيجية أو نظرية الردع، ولأول مرة منذ ست سنوات، وصلت حاملتا طائرات أمريكيتان إلى بحر الصين الجنوبي، في أحدث استعراض للقوة العسكرية من واشنطن تجاه بكين وسط التوترات السياسية بين البلدين.
وبدأت الحاملتان بتدريبات في بحر الصين الجنوبي ابتداء من يوم الاستقلال الموافق الرابع من يوليو الجاري، بعدما أنهت بكين تدريبات عسكرية استمرت خمسة أيام بالقرب من جزر بارسيل في منطقة بحر الصين الجنوبي، الذي تتشارك فيه الصين مع خمس دول أخرى مطلة على البحر، وهي فيتنام، والفلبين، وتايوان، وماليزيا وسلطنة بروناي.
ومع استمرار تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة والصين على مدار هذا العام، رفعت واشنطن بثبات وتيرة عملياتها في بحر الصين الجنوبي، حيث قامت بعمليات حرية الملاحة بالقرب من الجزر التي تسيطر عليها الصين، كما أجرت تدريبات تحليق طيران كثيف لقاذفات القنابل التابعة لسلاح الجو الأمريكي، فضلًا عن القيام بعمليات بحرية مشتركة مع شركاء مثل اليابان وسنغافورة، لكن نشر حاملتي الطائرات هذه المرة، والتي تدعم كل منهما 60 طائرة بالإضافة إلى طرادات ومدمرات الصواريخ الموجهة المصاحبة، يبدو أنه بيان واضح بأن واشنطن ليست على وشك التنازل عن أي نفوذ في المنطقة لصالح بكين.
في غضون ذلك، وصفت بكين وجود الولايات المتحدة في المنطقة بأنه مزعزع للاستقرار، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو ليجيان “تسافر بعض الدول خارج المنطقة في الغالب آلاف الأميال إلى بحر الصين الجنوبي للمشاركة في أنشطة عسكرية واسعة النطاق، وإظهار قوتها، وهذا هو السبب الأساسي الذي يؤثر على الاستقرار في بحر الصين الجنوبي”.
النزاع والردع
وفقاً للدراسات الجيواستراتيجية، يقع بحر الصين الجنوبي في غرب المحيط الهادي بين منطقة جنوب شرق آسيا، وتايلاند، والفيليبين، وبورنيو، ويرتبط ببحر شرق الصين عبر مضيق تايوان، كما يعد هذا البحر الأكبر في العالم بعد المحيطات الخمسة، حيث تغطي مساحته أكثر من 3 ملايين كيلومتر مربع، ويمتد من مضيق ملقا في الجنوب الغربي إلى مضيق تايوان في الشمال الشرقي، ويعيش أكثر من 500 مليون شخص في الصين وتايوان والفيليبين وماليزيا وبروناي وإندونيسيا وسنغافورة وكمبوديا وتايلاند وفيتنام على بعد100 ميل من ساحله.
فضلاً عن الثروات التي يتمتع بها، حيث يوجد أكثر من 30 في المئة من الشعاب المرجانية حول العالم في هذا البحر، والعديد من مصائد الأسماك القيمة، كواحد من أهم مصادر الغذاء للملايين، بوجود نحو 12 في المئة من الأسماك التي يتم اصطيادها في العالم، ناهيك عن المخزون من النفط والغاز الطبيعي، وسط توقعات بوجود احتياطات هائلة من الموارد الطبيعية تحت مياه البحر.
ومن الواضح أن النزاع يتم إدارته بين واشنطن وبكين وفقاً لاستراتيجية أو نظرية الردع، والذي يعرفه خبراء العلاقات الدولية بأنه منع الأطراف من اللجوء إلى القوة أو فن عدم استخدام القوة بالرغم من وجودها أو هو فن تجنب القتال.
ولعل من أبرز الكُتاب الإستراتيجيين الأمريكيين في نظرية الردع وهما بول هاث وبروس يعرفان الردع على أنه: محاولة من صانعي القرار في دولة ما لإجبار صانعي القرار في دولة أخرى على التجاوب مع مطالب ومصالح الدولة الأولى.
وفي نفس اتجاه تفسير الردع بالمعنى الاستراتيجي السياسي يمكن تعريفه بأنه هو محاولة طرف ما ثني طرف آخر عن الإتيان بفعل يرى الطرف الأول أنه ضار به أو يجده ضروريا لمنع الطرف الآخر من أن يفكر بالقيام بعمل ما أو الإتيان بتصرف أو سلوك معين يمكن أن يشكل تهديدا لمصالحه أو لأهدافه أو لموقعه أو لمكانته.
وبهذا المعني فإن الردع له شقان: أحدهما مادي وهو يشمل كل أنواع القوة وأدواتها ما يكفي لإنزال العقاب بالخصم، والآخر معنوي أو نفسي يهدف إلى التأثير النفسي على الخصم من خلال إقناعه بجدوى الرضوخ للرادع وعدم الرضوخ يعني ارتفاع ثمن العند والتشبث بالمواقف بشكل لا يستطيع تحمله، ويعتبر الردع استراتيجية فعالة يتوقف نجاحها بدرجة كبيرة على قدرة الرادع وفي نفس الوقت مدى واقعية الطرف المردوع.
صراع بسط النفوذ
تعكس التصرفات السياسية لكل من بكين وواشنطن أن الصراع بينهما هو صراع لبسط النفوذ والسيطرة، فرغم انشغال العالم بجائحة كورونا، لم تفوت بكين الفرصة، بإجراء تدريبات عسكرية مع نشر أصول عسكرية واسعة النطاق في المنطقة البحرية المتنازع عليها، ولم تكتف بذلك، بل احتفلت بشكل رسمي بأولى الخطوات التي تم إحرازها في استغلال موارد الطاقة المتنازع عليها في البحر الغني بالوقود الأحفوري.
كما أبحرت سفن بحرية أمريكية في هذه المنطقة، مما قد يضاعف المواجهة في الممر المائي وشحذ التنافس بينهما، خاصة في ظل مشاركة ثلاث سفن حربية أمريكية وفرقاطة أسترالية في تدريب مشترك في بحر الصين الجنوبي، وليس بعيداً من المكان، الذي تقوم فيه سفينة الأبحاث الصينية بمسح غير قانوني في المياه الماليزية.
وفي الواقعة الأخيرة، اتهمت بكين واشنطن بأنها أرسلت سفنها الحربية عمداً إلى بحر الصين الجنوبي لاستعراض عضلاتها ومحاولة دق إسفين بين دول المنطقة. وقالت الصين إن الولايات المتحدة الأمريكية لديها ما أسمته “دوافع خفية” وراء نشر حاملتي طائرات في بحر الصين الجنوبي، فيما يعد أحدث استعراض للقوة العسكرية بين الدولتين حتى الآن.
وبررت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) تحركاتها في المنطقة، وقالت إنها تريد “الدفاع عن حق جميع الدول في الطيران والإبحار والعمل حيثما يسمح القانون الدولي، كما وصفت السفينتين اللتين تحمل كل منهما نحو 90 طائرة بأنهما “رمز للعزيمة”.
واقع الأمر، أن العلاقات بين أمريكا والصين ستظل ملتهبة على الأقل خلال الشهور المتبقية من عمر الفترة الرئاسية الأولى للرئيس ترامب، في انتظار ما ستسفر عنه نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر من هذا العام.
وليس مستبعداً أن ترسل أمريكا سفناً بحرية للمنطقة البحرية في إطار مناورات “حرية الملاحة”، كما ليس مستبعداً أيضا أن تؤكد الصين نفوذها في المنطقة من خلال المزيد من الإجراءات على أرض الواقع، الأمر الذي يجعل العلاقات بينهما في توتر دائم، يعززه الخلافات بين الدولتين بشأن التجارة وتفشي فيروس كورونا والحكم الذاتي لهونج كونج وأمور أخرى.
المصدر : أ ش أ