لم يسلم العالم من تداعيات جائحة (كورونا) المستجد، فقد وجه تفشي الفيروس ضربة قوية للتدفق العالمي للبشر والسلع والخدمات، وجعل العولمة تحت الحصار، وأجبر دول العالم على التوجه نحو الداخل، مما أدى إلى تسريع عملية “الركود الجيوسياسي” في ظل البحث عن إعادة تقييم موازين القوى في النظام العالمي المستجد ما بعد (كورونا) وخاصة بين أمريكا والصين وعدد من القوى الدولية.
وفي الوقت الذي تتصاعد فيه حدة التلاسن بين أمريكا والصين، واتهام واشنطن لبكين، بإخفاء المعلومات حول خطورة الفيروس، ورفض الصين تلك الاتهامات، تتجه الولايات المتحدة لدعم تواجدها العسكري في بحر (بارنتس) على مقربة من المياه الإقليمية الروسية، تأكيداً لحرية الملاحة في المحيط المتجمد الشمالي، ولمواجهة زيادة نشاط الصين في بحر الصين الجنوبي، في سابقة من نوعها منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
ووفقا لبيان سلاح البحرية الأمريكية: فإن ثلاث مدمرات هي “يو.إس.إس. دونالد كوك” و”يو.إس.إس. بورتر” و”يو.إس.إس. روزفلت” بالإضافة إلى سفينة التموين “يو.إس.إن.إس سابلاي”، دخلت في الرابع من مايو 2020، بحر (بارنتس) ترافقها الفرقاطة البريطانية “إتش.إم.إس. كنت”، وأن هذه المهمة هدفها تأكيد حرية الملاحة وإظهار التكامل المثالي بين الحلفاء.
وخلال مؤتمر عبر الإنترنت نظمه مركز (بروكينجز) الأمريكي للأبحاث، أعلن وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر أنه في الوقت الذي يحد فيه الوباء الناجم عن فيروس (كورونا) المستجد من تحركات الجيش الأمريكي، فإن خصوم الولايات المتحدة ما زالوا يشكلون تهديداً.. وقال: “نحن نشهد زيادة في نشاط الصين في بحر الصين الجنوبي، ونرى الروس يواصلون اختبار دفاعنا الجوي في ألاسكا وعلى الحدود الشمالية”.
أبعاد ودلالات
جاءت اتهامات الرئيس الأمريكي للصين في اليوم نفسه الذي اتهم فيه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الصين بالمسؤولية عن انتشار الفيروس، وهدد بمحاسبة الحزب الشيوعي الصيني الحاكم عن تفشي هذا الوباء، وردد السيناتور الجمهوري تيد كروز الاتهامات نفسها للصين، قائلاً إنه يعتقد أن “الصين هي أكبر تهديد جيوسياسي للولايات المتحدة، وأن الحكومة الشيوعية الصينية تتحمل مسؤولية هائلة وإدانة مباشرة في تفشي هذا الوباء”.
وفي واحدة من أهم الدراسات التي حددت المخاطر الأكثر تأثيرا في التفاعلات الدولية ما بعد جائحة (كورونا) قدمت الجمعية الأوروبية الآسيوية (مجموعة أوراسيا) تقريراً أكدت فيه أن واشنطن وبكين تنظران إلى تفشي وباء كورونا باعتباره الجولة التالية في سباق تنافسهما الجيوسياسي، حيث يُلقي المسئولون الأمريكيون باللوم على بكين في التسبب فيما وصفوه بـ”الفيروس الصيني”، ويخشون من استخدام الدول لأموال الطوارئ التي يقدمها لهم صندوق النقد الدولي في سداد ديونهم للصين بموجب مبادرة “الحزام والطريق”، وفي المقابل ستوظف بكين نجاحها في احتواء الفيروس في الترويج لنموذج الحوكمة الصيني.
ويرى مراقبون أنه مع تحول التركيز الجيوسياسي العالمي نحو آسيا، أصبح نظام المحيط الهادي الهندي المتنوع والقائم على القواعد أكثر أهمية من أي وقت مضى، بما في ذلك ما يتعلق بمكانة أمريكا العالمية وحضورها المؤثر خاصة في المنطقة تلك، ولذلك أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ عامين عن رؤية خاصة بمنطقة المحيط الهادي والمحيط الهندي، على أساس كونها منطقة “حرة ومفتوحة” تتميز بتدفقات تجارية مفتوحة وحرية الملاحة واحترام سيادة القانون والسيادة الوطنية، والحدود القائمة.
وباتت الاستراتيجية الأمريكية في منطقة المحيط الهادي الهندي الأوسع نطاقاً تُواجه عوائق مستجدة، تهدد تركيزها على بناء نظام إقليمي قائم على القواعد مع قيادة ديمقراطية.
ووفقا لهؤلاء المراقبين ، يبدو أنه على الولايات المتحدة أن تعزز ثقلها بالمنطقة على أساس كونها قوة كبيرة قائدة ومؤثرة، وأن تعطي ثقلاً استراتيجياً لسياسة الحفاظ على منطقة المحيط الهادي الهندي وفق الرؤية التي رسمتها، بما في ذلك عن طريق وضع خطة واضحة لمقاومة جهود تغيير الوضع الراهن في بحر الصين الجنوبي.
وفي ظل الاتهامات المتزايدة من أمريكا للصين، تصاعدت المخاوف من اشتعال حرب باردة بين البلدين، وتجدد الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم، وأدت الاتهامات الأمريكية للصين إلى تراجعات كبيرة في أسواق الأسهم العالمية.
ويصف المراقبون هذا الوضع من التطورات الدراماتيكية بين الصين وأمريكا حالياً بأنه “سياسة تكسير العظام” لخلق واقع جديد من النظام العالمي، ففي ظل الانشغال بمواجهة تداعيات (كورونا) وما يتعلق بها من إجراءات اقتصادية تقلل من تحقيق الطموحات الخارجية والبحث عن النفوذ الجيوسياسي في العالم، والذي يمر بفترة من الركود والاضمحلال، تريد واشنطن أن تؤكد لكل من الصين وروسيا أنها قادرة على حماية مصالحها في بحر بارنتس والمحيط الهادي.
ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، سيواجه ترامب الانتقادات الموجهة إليه في إدارة أزمة (كورونا) بإلقاء مزيد من اللوم على الصين، وستؤدي التوترات المتصاعدة إلى مزيد من عدم اليقين بشأن تنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري بينهما، وهو ما يشكك في إمكانية الانتقال إلى المرحلة الثانية.
ويرجح المراقبون أن عالم ما بعد كورونا سيشهد “حربًا باردة” جديدة بين الولايات المتحدة والصين، من جهة، وحرباً من أجل احتواء الفراغ الجيوسياسي في منطقة المحيطات والأنهار الدولية مع روسيا من جهة ثانية.
المصدر : أ ش أ