بدون استقبال جماهيري أطلت شمس شم النسيم اليوم على المصريين، الذين عزموا أن يكون يوم جلاء فيروس كورونا المستجد عن هواء الوطن هو يوم شم النسيم الحقيقي، فبسبب انتشار الفيروس ومن أجل الحفاظ على سلامة المواطنين والصحة العامة جاء احتفال هذا العام مختلفا عن السنوات السابقة، حيث استقبل المصريون عيد الربيع في منازلهم دون الخروج مبكرا في جماعات مع أسرهم إلى الحدائق والمتنزهات العامة وكورنيش النيل وشواطئ المدن الساحلية وهو التقليد المميز لهذا اليوم.
ورغم استمرار السيطرة على الفيروس، والحفاظ على الإدارة الجيدة للموقف حتى الآن ، والتي أسفرت عن سير الأرقام وفق تقديرات الدولة منذ البداية، إلا أنه تجنبا لاتساع دوائر تفشى الوباء بسبب التجمعات والكثافات الكبيرة، فقد تقرر إغلاق الطرق إلى المدن الساحلية وغلق جميع الشواطئ والحدائق والمتنزهات فى جميع المحافظات، حيث أعلن الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء توافق الحكومة على أسلوب التعامل مع يوم شم النسيم من خلال اتباع إجراءات مشددة في هذا اليوم تحديدا.
حيث يطبق عليه نفس الاجراءات الخاصة بيومي الجمعة والسبت، من الغلق الكامل للمراكز والمحال التجارية وكذا الغلق الكامل لكل المتنزهات والحدائق العامة والشواطئ، لمنع التجمعات، بالإضافة إلى ايقاف كافة وسائل النقل العام في هذا اليوم، بما يشمل السكة الحديد، ومترو الأنفاق وحافلات النقل العام، ووسائل النقل النهري، وايقاف كل حافلات الرحلات التي تنتقل بين المحافظات أو بين المدن والشواطئ، للحد من الكثافات.
وأن هذه الإجراءات تفرض نوعا من الشدة على المواطنين، في يوم شم النسيم الذي يرتبط بالموروث الثقافي المصري، وتعود المواطنين التنزه فيه، ولكن الحكومة ورغم أنها تنظر إلى رغبة المواطن في الاحتفال بعين التقدير، ولكنها ترى أن أولوية الصالح العام وصحة المواطن تفرض الخروج في هذا اليوم بأقل قدر من التزاحم، والتجمعات التي يمكن أن يتزايد على إثرها معدل الإصابات.
وترجع تسمية “شم النسيم” بهذا الاسم إلى الكلمة الفرعونية “شمو”، وهى كلمة مصرية قديمة لها صورتان وهو عيد يرمز – عند قدماء المصريين – إلى بعث الحياة ، حيث كان المصريون القدماء يعتقدون أن ذلك اليوم هو أول الزنامة و بدء خلق العالم كما كانوا يتصورون ، وأضيفت إليه كلمة “النسيم” لارتباط هذا الفصل باعتدال الجو، وطيب النسيم، وما يصاحب الاحتفال بذلك العيد من الخروج إلى الحدائق والمتنزهات والاستمتاع بجمال الطبييعة.
ومراسم احتفال المصريين بشم النسيم التي انتقلت عبر العصور منذ أيام الفراعنة وحتى يومنا هذا، أفسدها ظهور فيروس كورونا، فقد كان المصريين يحرصون على استقبال أشعة الشمس في هذا اليوم في الهواء الطلق ويحملون فى خروجهم الأطعمة التى ارتبطت عندهم بشم النسيم وكذلك أدوات اللعب ومعدات اللهو والآلات الموسيقية والدفوف.
وكان الفرعون وكبار الكنة وباقي كبار رجال الدولة يبدأون احتفالهم اعتبارا من ليل هذا اليوم مجتمعين أمام واجهة الهرم الشمالية قبل غروب الشمس (ربما ليكونوا في اتجاه نسيم الربيع الذي تحمله نسائم الشمال) وذلك قبل الغروب ليشهدوا غروب الشمس فيظهر قرص الشمس وهو يميل نحو الغروب، مقتربا تدريجيا من قمة الهرم حتى يبدو للناظرين وكأنه يجلس فوق قمة الهرم ، حيث تخترق أشعة الشمس قمة الهرم فتبدو واجهته أمام أعين الناظرين كأنها مشطورة إلى نصفين في منظر بديع عجيب مدهش ، يضيف لحضارة الفراعنة سرا من أسرارها.
آما الفتيات فكن يتزين بعقود الياسمين فيما يحمل الأطفال سعف النخيل المزين بالألوان والزهورويظلون يحتفلون طيلة اليوم من شروق الشمس إلى غروبها، ويقيمون حفلات الترفيه مثل حفلات الرقص على أنغام موسيقى الناي والمزمار والقيثارة تصاحبها دقات الطبول والدفوف مصحوبة بالأغاني والأناشيد الخاصة بعيد الربيع.
وفيما حرم الفيروس المصريين من متعة الخروج للمتنزهات لم يمنعهم من تناول الأطعمة المميزة لهذا العيد، والتي أصبحت من عاداتهم وتقاليدهم التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بشم النسيم منذ القدم وحتى الآن ، لما كانت تمثله عندهم من اعتقاد بقدرتها على تجديد عملية الخلق والحياة والخصب والنماء والتي استمروا يفضلونها طيلة فترة تاريخهم والتي انتقلت من السلف إلى الخلف.
ومن أهم هذه الأطعمة السمك الملح والبصل الأخضر والخس والملانة ( الحمص الأخضر) والحلبة والترمس ، وجميعها أطعمة مصرية أصيلة مرتبطة بمعطيات البيئة ، وقد ارتبطت تلك الأطعمة عند قدماء المصريين بمدلول الاحتفال بشم النسيم وظلت حتى الآن حاملة فى مدلولها الاهتمام بتقديس نهر النيل ، حيث يعتقدون أن الحياة وبداية الخلق كانت من الماء ففي مذاهبهم لتفسير نشأة الوجود أن العالم كان قبل الخليقة عبارة عن محيط أزلي (لجة مائية) ليس له نهاية وأن الإله الخالق برز من المياه وخلق العالم بإرادته فأصدر كلمة نطق بها لسانه فكان من أمر الخلق ما كان.
واعتبر المصريون القدماء أن المياه التي على الأرض سواء الأنهار أو البحار أو البحيرات ما هي إلا فيضا من ذلك ” المحيط الأزلي الأولي “الذي تم منه خلق العالم ، وعلى ذلك كان نهر النيل المقدس عندهم ما هو إلا فيضا من تلك المياه الأزلية وأن السمك يدل عليها.
وقد برع المصريون في عملية تمليح وتجفيف السمك وصناعة الملوحة والفسيخ ، وقد ذكر هيرودوت المؤرخ اليوناني الشهير (أبو التاريخ) في كتابه عن مصر قائلاً عن المصريين: “إنهم كانوا يأكلون السمك المملح في أعيادهم ويرون أن أكله مفيد في وقت معين من السنة وكانوا يفضلون نوعا معيناً لتمليحه وحفظه للعيد أطلقوا عليه (البور)٠
كما كان البصل من الأطعمة التي حرص المصريون القدماء على تناولها في مناسبة شم النسيم منذ الأسرة السادسة على أقل تقدير ، فكانوا يعتقدون أن البصل مرتبط بإرادة الحياة وقهر الموت والتغلب على الأمراض والشفاء منها والتغلب على السحر وطرد الأرواح الشريرة والتغلب عليها ، ونسجوا في قدرته الشفائية الأساطير وتوضح أسطورة قديمة وردت من مدينة منف أسباب وجذور استخدامهم للبصل وجعله طعاما أساسيا على موائدهم في شم النسيم ، وتروي تلك الرواية أن أحد الملوك الفراعنة كان له طفل وحيد وكان محبوبا من الشعب وأن هذا الأمير الطفل مرض بمرض عضال أفقده القدرة على الحركة وعجز الأطباء والكهنة والسحرة عن علاجه فلزم الأمير الطفل الفراش عدة سنوات كانت فيها لا تقام أية أفراح أو احتفالات بالعيد مشاركة من الشعب للملك الفرعون في أحزانه.
وكان أطفال المدينة يقدمون القرابين للإله في المعابد في مختلف المناسبات طالبين لأميرهم الطفل الشفاء من مرضه، وذات يوم استدعى الملك الكاهن الأكبر للإله آمون فأخبرهم الكاهن أن مرض الأمير الصغير يرجع إلى وجود أرواح شريرة تسيطر عليه وتقعده عن الحركة بفعل السحر، وأمر الكاهن بوضع بصلة تحت وسادة الأمير لتكون تحت رأسه عند غروب الشمس بعد أن قرأ عليها بعض التعاويذ كما تقول الأسطورة، وعند الصباح شقها ووضعها فوق أنفه ليستنشقها، وطلب تعليق حزم البصل فوق سرير الطفل وعلى أبواب الغرف وبوابات القصر وذلك لطرد الأرواح الشريرة، وتروي الأسطورة أنه بناء على ذلك تمت معجزة شفاء الأمير الصغير تماما والذي نهض من فراشه وخرج ليلعب ويلهو في الحديقة وفرح الملك وأقام الأفراح في القصر وحضرها جميع أطفال المدينة وشارك الشعب بكل طوائفه في هذه الأفراح بالقصر.
وتصادف أن عيد شم النسيم كان بعد هذا الحدث بأيام فلما حل شم النسيم قام الملك وعائلته وكبار رجال الدولة بمشاركة الناس في عيد شم النسيم ، وقام الناس مشاركة منهم في تهنئة الأمير الطفل بتعليق البصل على أبواب منازلهم وكذلك جعلوا البصل الأخضر على موائدهم مع البيض والفسيخ في ذلك اليوم ليصير عادة بعد ذلك، وحتى الآن أصبحت عادة أكل البصل في شم النسيم مع الفسيخ والبيض عادة ملازمة للمصريين في وقتهم الحاضر وكذلك ظلت عادة تعليق حزم البصل على أبواب المنازل والغرف ولكن من المؤكد بعيدا عن الأساطير أن للبصل فوائده الطبية الكبيرة والمعروفة للجميع.
أما عملية تلوين البيض وزخرفته فتعود إلى عصور وعقائد قديمة لدي القوم حيث كانوا ينقشون على البيض الدعوات والأمنيات في عامهم الجديد ثم يجمعون البيض ويضعونه في سلال من سعف النخيل ويعلقونه في شرفات المنازل وفي أغصان الأشجار في الحدائق حتى يسطع عليها إله الشمس رع بأشعته فتنال بركة الإله ـ حسب معتقداتهم ـ فتتحقق دعواتهم ويبدأون العيد بتناول البيض وهي عادة ظلت متوارثة حتى الآن وقد اتبع هذا التقليد في جميع أنحاء العالم؛ حتى أن الغربيين أطلقوا على البيض في شم النسيم (بيضة الشرق) نسبة لقدوم تلك العادة من الشرق (مصر).
وكان الخس من الخضروات التي يكتمل نضجها في بداية الربيع ومن هنا فهو من النباتات التي تعلن عن قدوم الربيع. وقد ظهر الخس بأوراقه المعروفة في بداية الأسرة الرابعة على أقل تقدير حيث نراه مصورا في السلال ليقدم كقرابين للآلهة في عقيدة القوم وقد زرعوه في الحدائق على مقربة من من البيوت وكان يوضع كذلك على موائدهم في شم النسيم ضمن الأطعمة المحببة والتي تعارفوا عليها في ذلك العيد،واعتبروه من النباتات المقدسة الخاصة بالإله (مين) إله التناسل والإخصاب فقد صوروا الخس تحت أقدام هذا المعبود حيث كان يقام تمثاله في أغلب الأحيان تجاه مساحة مربعة من نبات الخس .كما كان في أساطيرهم أن الخس كان يأكله الإله (ست) الذي كان ماجنا ، وكان القدماء المصريين يرون أن الخس يزيد من خصوبتهم.
ولفت ذلك نظر بعض العلماء المتخصصين في النبات والتغذية في عصرنا الحديث فقاموا بعمل أبحاث على نبات الخس وعلاقته بالخصوبة فوجدوا أن هناك علاقة وثيقة بينهما، واكتشفوا أن زيت الخس يحتوى على فيتامين (هـ) المهم للجسم، وكان أيضا الحمص الأخضر من ضمن الثمار والأطعمة التي يتناولها المصريون القدماء في شم النسيم وكان المصريون يطلقون على الحمص (حر بيك) بمعنى رأس الصقر وقد أطلقوا عليه هذا الاسم بسبب أن شكل حبة الحمص تشبه رأس الصقر الذي كانوا يقدسونه هو الآخر تحت اسم الإله (حورس).
ووردت برديات طبية من مصر القديمة ذكروا فيها فوائد الحمص ومزاياه وكانوا يعتبرون نضوج ثمرة الحمص وامتلاءها بمثابة إعلان عن قدوم الربيع ومن هنا أخذوا منه اسم (الملانة ) أو (الملانة) وكانت الفتيات في عيد شم النسيم يصنعون من حبات الحمص الأخضر عقودا وأساور لهم يرتدينها كزينة في هذا اليوم كما كانوا يستخدمون حباته أيضا في تزيين حوائط المنزل ونوافذه في حفلاتهم المنزلية.
والزهور تعد من المظاهر الجميلة الراقية عند المصريين القدماء في يوم شم النسيم حيث كانوا يتزينون بعقود من الزهور وخصوصا زهور الياسمين ومن الجميل أن لفظ الياسمين الذي نستعمله في اللغة العربية لهذا النوع من الزهور هو تحريف عن الاسم المصري القديم لهذه الزهور وهو (ياسمون) وحولناه نحن في العربية إلى (ياسمين) ودخل الانجليزية مع تغيير بسيط (جاسمين) وكان المصريون القدماء يستخرجون من زهر الياسمين العطور وزيت البخور الذي كانوا يقدمونه ضمن قرابين الآلهة في المعابد.
المصدر : أ ش أ