في الوقت الذي تحتاج فيه البشرية إلى توحد العالم لمجابهة جائحة كورونا المستجد (كوفيد 19) المستجد، التي خلفت حتى الآن أكثر من مليوني مصاب، ووفاة أكثر من 127 ألف شخص حول العالم ، يشهد العالم الآن حالة من التوتر المكتوم بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، والذي يظهر تارة ويختفي تارة أخرى بسبب تداعيات فيروس كورونا، وتجدد الاتهامات المتبادلة بين “واشنطن وبكين” حول الشفافية والتعتيم، وامتد هذا التوتر وألقي بظلاله الكثيفة على مستقبل منظمة الصحة العالمية بعد تعليق “واشنطن” تمويلها.
ولا شك أن العالم يحتاج اليوم إلى التكاتف الكبير للخروج من هذه المحنة التي وضعت الأنظمة الصحية العالمية في اختبار حقيقي لم تتعرض له من قبل، في عالم “العولمة والانفتاح وسرعة التنقل” الأمر الذي ربما يختلف تماماً بعد انتهاء محنة الوباء.
فالعولمة بصورتها القديمة سوف تطرأ عليها تعديلات حتما، فلم يتسبب الإرهاب أو الجريمة المنظمة أو حتى اللاجئين في إغلاق الحدود المفتوحة (عنوان العولمة) مثلما استطاع فيروس كورونا، صاحب ذلك انكفاء الدول على شؤونها الخاصة، حماية لنفسها ومواطنيها، إلى الحد الذي ظهرت فيه مشاعر سلبية تجاه روابط حدودية مثلما حدث في إيطاليا وإسبانيا تجاه الاتحاد الأوروبي.
ولكن هذا لا يعني أن هناك اتجاها لرفض العولمة برمتها، لأن دول العالم لم يعد بإمكانها العودة إلى الوراء، لأن الصيغ التي تجمع الكون كله، اتصاليا وسياسيا واقتصاديا، باتت من التشابك بحيث يصعب العدول عنها، فضلا عن أن مواجهة هذا الوباء، وربما أوبئة قادمة، يتطلب حالة من التكاتف العالمي، وهو ما لفت إليه بقوة في أحاديثه في الفترة الماضية الملياردير الأمريكي ومؤسس شركة (مايكروسوفت) بيل جيتس.
كما أكد ريتشارد هاس، خبير العلاقات الدولية ورئيس مجلس الشؤون الخارجية الأمريكي، في مقال له بدورية “الشؤون الخارجية” في السابع من أبريل الجاري، أن عالم ما بعد الوباء لن يكون مختلفاً جذرياً، على الأرجح، عن ذلك الذي سبقه، ولن يغير مساره كلياً ولكنه سيسرع به، وأن ثمة اعتبارات أخرى ستكون حاكمة لدرجة التغيير.
- توتر مكتوم
ومع الافتراضات الثابتة بأن فيروس كورونا سيغير العالم، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وامتزاج المحلي بالدولي في طرق معالجة الأزمة، وتأثيراتها على النظام الدولي وتفاعلاته، بدا واضحاً منذ البداية تبادل الاتهامات بين (واشنطن) و(بكين) بعد وصف ترامب الفيروس بأنه “صيني” الأمر الذي نفته بكين.
ثم تجدد الاتهام الأمريكي بعد أن أعلن وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، أن بلاده ما زالت تتوقع تلقي جميع المعلومات الضرورية من الصين، فيما يتعلق بانتشار فيروس كورونا المستجد، ودعا بكين إلى التعاون.
في المقابل، اعتبرت المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، تشاو لي جيان في وقت سابق، أن على الصين تكافح ليس فقط تفشي الفيروس التاجي، ولكن عليها أيضا أن تكافح فيروس الحرب الباردة المستجدة، بسبب تصريحات عدد من المسؤولين الأمريكيين.
كان التوتر المكتوم بين الولايات المتحدة والصين قد شهد تصاعداً بعد أن كتب المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية على تويتر، باللغة الإنجليزية، “متى ينتهي المرض من الولايات المتحدة؟ كم عدد الأشخاص المصابين؟ ما أسماء المستشفيات (التي يعالج فيها المصابون)؟ إن من الممكن أن يكون الجيش الأمريكي هو الذي جاء بالوباء إلى ووهان. كوني شفافة! أعلني بياناتك! الولايات المتحدة مدينة لنا بتفسير”.
وردت وزارة الخارجية الأمريكية باستدعاء السفير الصيني في الولايات المتحدة “تسوي تيان كاي”، وسلمته مذكرة شديدة اللهجة متضمنة الحقائق. - انتقادات عالمية وتداعيات سلبية
تطور التوتر المكتوم في العلاقات بين الصين وأمريكا ليلقي بتأثيراته السلبية على منظمة الصحة العالمية، بعد أن أمر الرئيس الأمريكي ترامب إدارته بأن تعلق دفع المساهمة المالية للولايات المتحدة في منظمة الصحة العالمية بسبب ما أسماه “سوء إدارة” المنظمة الأممية لأزمة تفشي فيروس (كورونا) المستجد، معتبراً أنها ارتكبت “أخطاء” كثيرة، واتهم الرئيس الأمريكي المنظمة بأنها أيدت مواقف الصين التي تتهمها (واشنطن) بأنها أخفت في البداية خطورة الفيروس عندما ظهر على أراضيها للمرة الأولى في ديسمبر الماضي.
وكانت البداية عندما قال الرئيس الأمريكي في تغريدة له عبر حسابه الرسمي على “تويتر” ، “إن منظمة الصحة العالمية أخفقت، الغريب أن المنظمة تلقت منا أموالا طائلة لكن تركيزها منصب على الصين، وانتقدت قراري بمنع دخول الصينيين إلى الولايات المتحدة”.
وبالتالي ستوقف الولايات المتحدة، وهي أكبر مساهم في تمويل منظمة الصحة العالمية بأكثر من 400 مليون دولار سنوياً، التمويل ريثما تقيم دورها فيما أسمته واشنطن بـ “إساءة إدارة تفشي كورونا المستجد”.
ومن جانبها حثت الصين، الولايات المتحدة على الوفاء بالتزاماتها تجاه منظمة الصحة العالمية، وقال تشاو لي جيان، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “إن تفشي الفيروس الذي أصاب نحو مليوني شخص على مستوى العالم بلغ مرحلة حرجة، وقرار الولايات المتحدة سيؤثر على جميع دول العالم”.
وأضاف قائلاً أن :”هذا القرار سيُضعف قدرات منظمة الصحة العالمية وسيقوّض التعاون الدولي ضد الوباء”، مشيراً إلى أن بلاده تشعر بـ”قلق شديد” بعد قرار الرئيس الأمريكي.
وانتقد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريس بشدة، قرار ترامب، معتبراً أن “هذا ليس وقت خفض موارد” مثل هذه المنظمة الأممية المنخرطة في الحرب ضد وباء (كوفيد 19).
وقد ضم الاتحاد الأوروبي صوته إلى انتقادات عالمية لقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقف التمويل لمنظمة الصحة العالمية، وكتب جوزيب بوريل، مسؤول السياسية الخارجية بالاتحاد الأوروبي، على “تويتر”، يقول: “نأسف بشدة على القرار الأمريكي تعليق التمويل لمنظمة الصحة العالمية. لا يوجد سبب يبرر هذه الخطوة في لحظة جهود المنظمة مطلوبة فيها أكثر من أي وقت مضى”.
وقال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، تعليقاً على قرار ترامب: “إن دعم منظمة الصحة العالمية أحد أفضل الاستثمارات”، وكتب ماس على تويتر “توجيه اللوم لا يجدي. الفيروس ليس له حدود، يتعين أن نعمل معا عن كثب لمكافحة كوفيد-19، أحد أفضل استثماراتنا دعم الأمم المتحدة، ولا سيما منظمة الصحة العالمية التي لا تتلقى تمويلا كافيا، لصناعة وتوزيع اختبارات ولقاحات على سبيل المثال”. - قضايا عالمية أخرى
يأتي هذا التوتر في ظل توقعات صندوق النقد الدولي بانكماش الاقتصاد العالمي بشكل حاد بنسبة 3% في عام 2020، وهو أسوأ بكثير مما كان عليه خلال الأزمة المالية 2008-2009، وقال الصندوق في تقريره “مستجدات آفاق الاقتصاد العالمي” لشهر أبريل الجاري، إن وباء (كوفيد 19) تسبب في تكاليف بشرية عالية ومرتفعة في جميع أنحاء العالم، وتدابير العزل تؤثر بشدة على النشاط الاقتصادي.
واقع الأمر أن تداعيات التوتر المكتوم بين “واشنطن وبكين” لم تقتصر على منظمة الصحة العالمية، وإنما امتدت ولا تزال آثارها إلى قضايا عالمية أخر ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمستقبل البشرية، ومن أبرزها: قضية التغيرات المناخية، التي تتطلب التعاون الدولي والقرارات العالمية لتحقيق أهداف عالمية عابرة لحدود الدول.
فكما تحدت الولايات المتحدة منظمة التجارة العالمية وكافة الاتفاقيات التجارية التي أبرمتها، سواء مع خصومها أو حلفائها، خرجت واشنطن من التوافق الدولي حول التغييرات المناخية في اتفاق باريس للمناخ، وهي الدولة صاحبة النصيب الثاني بعد الصين في تلوث الكوكب.
ورغم أن هذه التوترات هي من الظواهر المعتاد وجودها في العلاقات الدولية، لكن يبقى القول أن ثمة حاجة للبشرية تدفع في اتجاه التعاون الدولي، ليس فقط في مجال الصحة، ودعم منظمة الصحة العالمية، وإنما كذلك في اتجاه دفع ودعم التعاون الدولي في القضايا المماثلة مثل “الاحتباس الحراري” و”منع انتشار الأسلحة النووية”، لكونها قضايا تتعلق بالوجود البشري الذي لا تمنعه حدود ولا قيود.
المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)