بعد شهور من الشد والجذب والانقسام بين القوى والأحزاب السياسية أعقبت الانتخابات البرلمانية التي جرت في شهر اكتوبر الماضي ،وبعد مخاض عسير، خرجت الحكومة التونسية الجديدة أخيرا إلى النور ، لتتجاوز البلاد عتبة أزمة سياسية ودستورية عاصفة ، وصفها الرئيس التونسي قيس سعيد بأنها الأسوأ في تاريخ تونس.
فقد صوت مجلس النواب التونسي في ساعة مبكرة من صباح اليوم (الخميس) ، وبأغلبية كبيرة لصالح منح الثقة لحكومة رئيس الوزراء المكلف إلياس الفخفاخ. وجاءت نتيجة التصويت – خلال الجلسة التي استمرت على مدى أكثر من عشر ساعات ،بموافقة 129 عضواً ورفض 77 عضواً وامتناع نائب واحد عن التصويت من أصل عدد نواب البرلمان المكون من 217 مقعداً .
وتضم الحكومة التونسية الجديدة 31 حقيبة وزارية، تمثل وزراء من أحزاب «حركة الشعب»، و«التيار الديمقراطي»، و«تحيا تونس» و«النهضة» و«البديل»، إضافةً إلى 17 وزيرا من المستقلين بلا انتماء سياسي، وهم الذين يشغلون الحقائب الكبرى مثل العدل والداخلية والخارجية والدفاع والمالية. في حين حصلت حركة النهضة على ست حقائب خدمية بالأساس، مثل الصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية والشباب.أما الباقون فهم ثلاثة للتيار الديمقراطي، حقيبتان لكل من تحيا تونس وحركة الشعب، وحقيبة واحدة لكل من حزب نداء تونس وكتلة الإصلاح الوطني.
ووفقا للدستور التونسي فإنه بعد نيل الحكومة ثقة مجلس النواب ،يؤدّي رئيس الحكومة وأعضاؤها اليمين الدستورية أمام أمام رئيس الجمهورية، ليصبح بذلك الفخفاخ (47 عاماً) ثامن رئيس للوزراء في تونس منذ ثورة 2011 التي أطاحت بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
وبنحاح حكومة الفخفاخ في اختبار الثقة أمام البرلمان ، بعد خمسة أشهر من الانتخابات العامة التي أنتجت مشهدًا برلمانيًا متشظيا ومنقسما ، يسدل الستارعلى فصل من فصول الانتقال السياسي الصعب في تونس. وكانت الانتخابات النيابية التي جرت في تونس منتصف شهر أكتوبر من العام الماضي، قد أفرزت تشكيلة برلمانية منقسمة ومجلس نواب بلا أغلبية ، حيث لم تتمكن أي من الاحزاب الكبرى من الفوز بأغلبية مريحة تمكنها من تشكيل الحكومة دون حاجة للتحالف مع الأحزاب الاخرى، وهو ما أدخل البلاد في أزمة سياسية استمرت لشهور.
وقد سبقت جلسة البرلمان التونسي للتصويت على حكومة الفخفاخ جهود ومشاورات مضنية للوصول إلى توافق بين الأحزاب المكونة للائتلاف الحكومي بهدف تجاوز الخلافات بينها. وقد توجت هذه الجهود التي موافقة الأحزاب الخمسة المشاركة في الائتلاف على برنامج عمل الحكومة المرتقبة ، أو ما وصف ب “وثيقة التعاقد الحكومي المعدلة ” والتي عرضها رئيس الوزراء المكلف على هذه الأحزاب ، بهدف تجاوز الخلافات الكبيرة حول التوجهات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة الجديدة. ويضم هذا التحالف الحكومي كلا من حزب حركة النهضة وحزب التيار الديمقراطي، وحركة الشعب، وحركة “تحيا تونس”، وكتلة “الإصلاح الوطني” البرلمانية، التي تضم بدورها تحالفاً يتكون من عدة أحزاب ضعيفة التمثيل البرلماني .
وتضمنت وثيقة التعاقد الحكومي الخطوط العريضة لبرنامج عمل الحكومة، وأولوياتها التي ارتكزت على محورين أساسين: الأول يتمثل في الأسس والمبادئ التي سيقوم عليها العمل الحكومي، والتي تعد بمثابة التزام بين الحكومة والأحزاب الممثلة فيها، وأبرزها الالتزام بقيم الثورة واستكمال تحقيق أهدافها، وترسيخ المسار الديمقراطي، والاستجابة لمطالب الشعب.أما المحور الثاني فيدعو إلى تنقية المناخ السياسي، وتكريس مبدأ حياد الإدارة،وإنعاش الاقتصاد واتخاذ إجراءات عاجلة للحد من العجز التجاري .
ونقلت وسائل الإعلام التونسية عن بعض ممثلي الأطراف السياسية التي شاركت في الاجتماع مع الفخفاخ ، أن من الحكومة الجديدة ستطلق سبعة مشاريع وطنية كبرى، من بينها برنامج هيكلي لإصلاح مؤسسات الدولة، وإصلاح منظومة التربية والتعليم والصحة ، ومنظومة الزراعة ، إلى جانب تعزيز ا لعلاقات الاقتصادية التونسية مع بلدان القارة الأفريقية.
وتواجه الحكومة التونسية الجديدة العديد من الملفات والاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية العاجلة والملحة ، والتي تتطلب منها التعامل معها بشكل عاجل ودونما انتظار.
وفي مقدمة هذه الملفات وأصعبها ، الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس حاليا ، حيث سيكون على الحكومة الجديدة العمل على ايجاد حلول عاجلة لهذه الأزمة، فضلا عن الارتقاء بالخدمات العامة في البلاد مثل الصحة والتعليم والتي شهدت تدهورا ملحوظا في السنوات الأخيرة ، أثرت على ثقة الشارع التونسي في النخب السياسية التي تصدرت المشهد السياسي في تونس منذ عام 2011.
إذ تواجه تونس حاليا عجزاً في الموازنة العامة للدولة بنسبة 5.3%، ونسبة تضخم مرتفعة 6.5%، علاوة على تدهور قيمة العملة المحلية، ونسبة نمو اقتصادي لا تلبي تطلعات مئات الآلاف من العاطلين عن العمل.
وتعيش البلاد منذ ثورة 2011، تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة مع تزايد معدلات البطالة والتضخم وترجع قيمة العملة الوطنية .كما يشكو التونسيون من تدني مستوى الخدمات في المرافق العامة مثل الصحة والنقل والتعليم، وقد فشلت الحكومات التونسية المتعاقبة منذ ذلك التاريخ في تقديم حلول حقيقية وشاملة لتلك المشكلات العديدة والمزمنة.
وعلى ضوء ذلك فإن على رأس الأولويات الاقتصادية والاجتماعية لحكومة الفخفاخ ، هو العمل على إنعاش الاقتصاد التونسي بإجراءات عاجلة، والسعي لتحسين الأوضاع المعيشية للتونسيين وتفعيل الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، و”تعبئة الموارد الضرورية ، والعمل على جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية.
وفضلا عن الأوضاع الاقتصادية والاستحقاقات الداخلية الصعبة ، تواجه تونس تحديا آخر يتعلق بالتطورات والملفات الاقليمية المحيطة وتأثيراتها على الداخل التونسي، وفي مقدمة هذه الملفات، الأزمة الليبية وانعكاساتها على تونس اقتصاديا وأمنيا.
المصدر : أ ش أ