تشير التطورات المتتالية والمتسارعة للتصاعد الحاد في العلاقات بين أمريكا وإيران، إلى أن العراق باتت ساحة المواجهة المباشرة بين واشنطن وطهران، وذلك على خلفية الرد الإيراني لمقتل قاسم سليماني في غارة أمريكية قرب مطار بغداد الدولي، يوم الجمعة الماضي، بإعلانها أنها أطلقت 22 صاروخاً على قاعدة “عين الأسد” في الأنبار وقاعدة “حرير” في أربيل، مع تأكيد خامنئي بمواصلة استهداف القوات الأمريكية “حتى خروجها من المنطقة”.
وفي أعقاب القصف الإيراني لقواعد عسكرية أمريكية في العراق، أعلنت قوات أجنبية في العراق انسحابها أو إعادة نشرها، فضلا عن إجراءات أخرى لزيادة التأهب في صفوف القوات الأمريكية والغربية في أنحاء الشرق الأوسط.
ومع تعقد المشهد السياسي وشيوع الضبابية للموقف الأمريكي حول حجم الخسائر التي لحقت بالقوات الأمريكية في العراق، بالتزامن مع إعلان العراق عن ضرورة إنهاء القوات الأجنبية على أراضيها، تناست كل من أمريكا وإيران أن المواجهة بينهما باتت على الأراضي العراقية، لما لها من سيادة على الأرض، وتباعد رؤى القوى السياسية في العراق بشأن وجود القوات الأجنبية.
وسارعت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) إلى نفي التقارير التي تفيد بأن الجيش سينسحب من العراق في أعقاب تصويت البرلمان العراقي على قرار غير ملزم يطلب من الحكومة إخراج القوات الأجنبية، ردا على اغتيال الجنرال الإيراني البارز قاسم سليماني على الأراضي العراقية.
وقال وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر: “لا قرار بالمغادرة، ولم نصدر أي خطط للمغادرة أو الاستعداد للمغادرة، نحن ملتزمون بمهمة هزيمة داعش في العراق إلى جانب حلفائنا وشركائنا”.
يشار إلى أن احتلال أمريكا للعراق في 2003 وإسقاط صدام حسين، وبزعم أمريكي لنشر الديمقراطية، قد أسفر بعد ستة عشر عاماً عن تغلغل إيران في كل مفاصل الدولة العراقية، وبروز القوى والأحزاب الطائفية، وتشجيع المنظمات الإرهابية، وفى النهاية اقتحام مجموعات عراقية موالية لإيران للسفارة الأمريكية فى بغداد، ومحاولة إحراقها، ثم تصويت البرلمان العراقي قبل ايام على اخراج كل القوات الاجنبية فى اشارة واضحة للقوات الأمريكية.
مخاطر محدقة بالعراق:
وفقاً للخبراء والمحللين، شكل اغتيال قاسم سليماني نقطة تحول محورية فى الصراع بين الولايات المتحدة وإيران وباتت تداعياته مفتوحة على كل الاحتمالات بما فى ذلك الصراع الدموي الممتد من حيث الزمان والمكان، وباتت العراق ساحة المواجهة المكشوفة بين الجانبين.
وبدا أن الولايات المتحدة تسعى بالفعل لمثل ذلك التحول، فوزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر، قال عقب العملية العسكرية “تغيرت اللعبة بين الولايات المتحدة وإيران”. فالمواجهة لم تعد مواجهة عبر وسائل سياسية، مثل العقوبات القاسية التي فرضتها الولايات المتحدة وأرهقت الاقتصاد الإيراني، أو الانسحاب من الاتفاق الدولي بشأن النشاط النووي الإيراني. ولم تعد المواجهة أيضا حربا بالوكالة فى المنطقة.
بل صارت مواجهة مباشرة على الساحة العراقية تأخذ طابعا عسكريا هذه المرة، سواء كان ممثلا بالضربات الجوية فى نهاية ديسمبر الماضي والتي استهدفت كتائب حزب الله العراقي ونتج عنها مقتل وإصابة العشرات، أو العملية الأخيرة لاغتيال سليماني، أو الضربة الإيرانية لمواقع القوات الأمريكية في العراق.
المثير للتطورات أن الولايات المتحدة وهي تمارس سياسة التصعيد ضد إيران لم يكن العراق بأرضه ونظامه وقواه السياسية ضمن حسابات ساكني البيت الأبيض، ففي تصريحاته فور اغتيال سليماني على الأرض العراقية، كرر وزير الدفاع الأمريكي مطالبته للعراق بضرورة التحرك نحو الحد من النفوذ الإيراني، ليس فقط فى العراق وإنما فى الحكومة نفسها.
كما أن واشنطن عند اغتيال سليماني لم تضع في الاعتبار تداعياته على الوضع العراقي المعقد فى الوقت الراهن، فالتظاهرات الممتدة دفعت الحكومة للاستقالة، وكانت في الأساس هدفها طرد الوجود الأجنبي من على أرض العراق.
وتأسيساً على ذلك، فإن قيام الولايات بعملية الاغتيال على الأرض العراقية، أي تحويل العراق لساحة مواجهة مباشرة مع إيران، دفع بالفعل للمزيد من التوتر فى علاقة أمريكا بالعراق، والمتوترة أصلا، حيث صوت البرلمان العراقي على ضرورة خروج أمريكا من العراق، وكان لافتا أن رئيس الوزراء نفسه، فى بيانه أمام البرلمان، دعا صراحة لذلك الخروج. وهو ما تبعه رفض صريح من ترامب وتهديد بفرض عقوبات “لم يروها من قبل” على العراق، الذى يفترض أنه حليف للولايات المتحدة التي ذهبت قواتها تلك بناء على طلب من الحكومة العراقية للمساعدة فى هزيمة داعش.
العراق يحذر:
أدركت المؤسسات العراقية خطورة المساس بأمن العراق واستقراره، الأمر الذي جعل الرئيس العراقي برهم صالح يُحذر من زج بلاده في حرب جديدة، مؤكدا أن العراق يرفض أن يكون مصدر تهديد لأيّ من جيرانه.
وذكرت الرئاسة العراقية في بيان لها “أنها تتابع بقلق بالغ التطورات الخطيرة التي تشهدها المنطقة، وتستنكر القصف الصاروخي الإيراني الذي طال مواقع عسكرية على الأراضي العراقية، وتجدد رفضها الخرق المتكرر للسيادة الوطنية وتحويل العراق إلى ساحة حرب للأطراف المتنازعة.
وأكدت أن “العراق سبق أن أعلن رفضه لأن يكون منطلقا للاعتداء على أية دولة، كما يرفض أن يكون مصدر تهديد لأي من جيرانه، بل يسعى لأن يكون دعامة للاستقرار ومساحة لتلاقي المصالح بين شعوب المنطقة، وأن أمنه وسيادته يجب أن يصان وفق المواثيق الدولية والعلاقات والاتفاقات”.
كما شدد رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، في بيان على أن العراق “إذ يرفض أي انتهاك لسيادته والاعتداء على أراضيه، فإن الحكومة مستمرة بمحاولاتها الجاهدة لمنع التصعيد واحترام الجميع لسيادة العراق وعدم التجاوز عليها وعدم تعريض أبنائه للخطر”. وأضاف: “دعونا وندعو الجميع لضبط النفس وتغليب لغة العقل والتقيد بالمواثيق الدولية واحترام الدولة العراقية وقرارات حكومتها ومساعدتها على احتواء وتجاوز هذه الأزمة الخطيرة التي تهددها والمنطقة والعالم بحرب مدمرة شاملة”.
ومن ناحيته أدان رئيس مجلس النواب العراقي، محمد الحلبوسي، “الانتهاك الإيراني للسيادة العراقية” وقال: “نؤكد رفضنا القاطع لمحاولة الأطراف المتنازعة استخدام الساحة العراقية في تصفية الحسابات”، داعياً الحكومة إلى “اتخاذ الإجراءات والتدابير السياسية والقانونية والأمنية اللازمة لإيقاف مثل هذه الاعتداءات”.
ومن جانبها دعت بعثة الأمم المتحدة في العراق، إلى ضبط النفس واستئناف الحوار، بعد القصف الصاروخي الإيراني على قاعدتين عسكرتين تؤويان جنوداً أمريكيين وأجانب، معتبرة أنه لا ينبغي أن يدفع العراق “ثمن تناحرات خارجية”.
وعلى الجانب الإيراني، بات المشهد السياسي العراقي في الداخل يموج بالتجاذبات السياسية، بعد سيطرة القوى الشيعية الموالية لإيران على المشهد السياسي في بغداد، وباتت قوات الحشد الشعبي في مواجهة تحدي مع الحكومة العراقية، لدرجة أنهم أعلنوا أنهم سوف يحاربون مع إيران، إذا اشتبكت مع أمريكا أو إسرائيل.
ولكن رغم ذلك، فإن إيران التي ظنت أنها قد بسطت نفوذها على العراق، فوجئت بالشعب العراقي وفى القلب منه الطائفة الشيعية، تثور على طهران، وتحرق قنصلياتهم وتهتف ضد رموزهم الدينية، وتطالبهم بالتطهير من الفساد.
أفق محكوم ومحدود:
وفي الحاصل الأخير، فإن آفاق استمرار المواجهة العسكرية المباشرة بين واشنطن وطهران على الأراضي العراقية تبدو محكومة ومحدودة في ضوء حسابات الطرفين للانجرار إلى مواجهات عسكرية مفتوحة، بل ربما تتجدد الصراعات عبر الوكلاء في إقليم الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق تشير تقارير إلى أن الضربة الإيرانية التي استهدفت قوات أمريكية في قاعدة “عين الأسد” في الأنبار وقاعدة “حرير” في أربيل،، بدت مظاهرها وملامحها وكأنها جاءت حفظاً لماء الوجه بأقل كلفة ممكنة، وفي الوقت نفسه تفادي الانجرار إلى حرب مع الولايات المتحدة.
انعكس هذا الإيحاء في عدة مظاهر، الأول: أن اختيار قاعدة عين الأسد ربما كان مقصوداً، لأنها القاعدة الأكبر للقوات الأمريكية في العراق، ما يمنح إيران فرصة للتباهي بـضربها، وهو ما يخفف من حدة الضغوط الداخلية على النظام في إيران، الثاني: أفاد مسؤولون أمريكيون بأن الصواريخ الإيرانية سقطت في مناطق غير مأهولة من قاعدة عين الأسد وهو ما يشير إلى محدودية الخسائر. ويمكن تفسير ذلك بأحد أمرين، فإما أن تكون الصواريخ الإيرانية فشلت في الوصول إلى أهدافها بدقة، أو أن تكون إيران تعمدت استهداف هذه المناطق لتقليل الخسائر، مع توصيل رسالة إلى الأمريكيين بقدرتها على تهديدهم من دون الدخول في مواجهة مفتوحة. 3
أما المظهر الثالث، الهالة الإعلامية التي ترافقت مع الضربة الإيرانية ويندرج مشهد دفن سليماني بعد دقائق من إطلاق الصورايخ في إطار سعي النظام إلى تعظيم استغلال الضربة وتقديمها باعتبارها تحققاً للثأر الموعود.
في حين يتمثل المظهر الرابع في قدرة إيران على اللعب على سياسة توزيع الأدوار السياسية، ففي الوقت الذي حمل فيه بيان الحرس الثوري ونبرته التهديدية، بما يحمل رسالة طمأنة للداخل الإيراني، وجه وزير الخارجية جواد ظريف خطابه للمجتمع الدولي، متحدثاً عن إجراءات متكافئة في إطار الدفاع عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وأكد أن طهران “لا تسعى إلى التصعيد أو الحرب”، مشيراً إلى أن ما جرى جاء في إطار “حق الدفاع عن النفس” ثم خرج المتحدث باسم الحكومة الإيرانية ليقول إن طهران “لا تسعى للحرب مع أمريكا”.
كل هذه الملامح والمظاهر المستقاه من الضربة الإيرانية للأهداف الأمريكية في العراق، تُشر إلى أن آفاق المواجهة العسكرية بين واشنطن وطهران، باتت محكومة ومحدودة مع رغبة مشتركة من الجانبين في عدم الانجرار إلى حرب مفتوحة، والأمل معقوداً على نجاح الجهود الدولية والإقليمية في تحجيم حدة التوتر المتصاعد بين الجانبين والتوصل لتسوية تحقق أمن واستقرار العراق أولاً، ومن ثم أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسطً، وأخيراً الأمن والاستقرار العالمي.
المصدر : أ ش أ