أعادت الزيارة الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان لواشنطن تسليط الضوء على واقع العلاقات التركية الأمريكية التي شهدت خلال السنوات القليلة الماضية في ظل حكم إردوغان العديد من الأزمات والتوترات العاصفة والتي هددت بشكل كبير مسيرة هذه العلاقات بين بلدين عضوين في حلف شمال الأطلسي.
زيارة إرودغان للولايات المتحدة أتت بعد أسابيع من التصريحات المتبادلة المتوترة والمواقف المتضاربة أحياناً، ما جعل الكثير من المحللين يترقبون ما يمكن أن تسفر عنه هذه الزيارة ، وبينما يرى معارضو الزيارة أن استقبال إردوغان بمراسم حافلة في البيت الأبيض هو بمثابة هدية له تعزز موقعه فإن المسؤولين في الإدارة الأمريكية يرفضون النظر إلى الزيارة بهذه الزاوية، إذ أن تركيا – في رأي واشنطن – تظل شريكا مهما في قضايا عديدة بغض النظر عن الموقف من إردوغان.
كما أن الحفاوة التي استقبل بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نظيره التركي في البيت الأبيض والإشادة بالتعاون القائم بينهما لم تخف التباين القائم في مواقف البلدين حيال الكثير من الملفات والقضايا الخلافية والذي ألقى بظلاله على هذه العلاقات خلال السنوات الأخيرة خصوصا خلال العامين الأخيرين في أعقاب إعادة انتخاب الرئيس التركي أواخر شهر يونيو 2018 بعد تعديل الدستور وانتقال البلاد من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي وباتت السلطة التنفيذية تتركز في يد الرئيس.
وقد كان عام 2018 عاما ثقيلا وصعبا على العلاقات بين أنقرة وواشنطن والتي كانت كلما تجاوزت أزمة أوعقبة فإنها سرعان ما تجد نفسها في مواجهة أزمة أخرى لا تقل صعوبة وتعقيدا، ووصل الأمر إلى حد التهديدات بفرض عقوبات اقتصادية وإجراءات عنيفة.
ففي 20 يوليو من نفس العام 2018، تفجرت أزمة القس الأمريكي أندرو برانسون، الذي كان يحاكم في تركيا بتهمة المشاركة في أعمال إرهابية وقد رفضت واشنطن اقتراحًا تركيا بأن يقوم الجانب الأمريكي بتسليم رجل الدين التركي فتح الله جولن والمطلوب لدى السلطات التركية مقابل إطلاق سراح القس برانسون، وتتهم أنقرة فتح الله جولن الذي ترفض الولايات المتحدة تسليمه إليها بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في تركيا منتصف عام 2016.
وتحت وطأة التهديدات والعقوبات الاقتصادية الأمريكية على تركيا والتي شملت وزيري الداخلية والعدل التركيين ومضاعفة الرسوم على واردات الولايات المتحدة من الفولاذ والألمونيوم التركيين اضطرت أنقرة إلى تسليم برانسون إلى بلاده..وما أن تجاوزت العلاقات التركية الأمريكية أزمة القس، حتى تفجرت أزمة الصواريخ الروسية التي تعاقدت تركيا على شرائها من روسيا والتي اعتبرتها الولايات المتحدة تهديدا لمنظومة حلف شمال الأطلسي، لكن رغم احتجاجات واشنطن، فقد تمسكت تركيا بإتمام صفقة النظام الصاروخي الروسي المضاد للطائرات من طراز “إس 400”.
وردا على ذلك استبعدت الولايات المتحدة تركيا من برنامج تطوير الطائرات المقاتلة “إف-35” بالرغم من استثمارات أنقرة الطائلة في هذا المشروع، وقبل أيام من زيارة إردوغان لواشنطن، هدد الجانب الأمريكي بفرض عقوبات على تركيا بسبب اقتنائها منظومة صواريخ دفاعية روسية الصنع، وقال مستشار الأمن القومي الأمريكي روبرت أوبراين إن الولايات المتحدة محبطة للغاية من شراء تركيا منظومة دفاع صاروخي روسية وقد تفرض عقوبات على أنقرة إذا لم “تتخلص منها”، مضيفا”هذه رسالة سيوصلها الرئيس ترامب بوضوح تام لإردوغان عندما يكون هنا في واشنطن”.
وقبيل أيام من زيارة الرئيس التركي للولايات المتحدة تفجرت أزمة أخرى في العلاقات بين البلدين والتي تتعلق بقضية الأرمن،حيث صوت مجلس النواب الأمريكي في نهاية أكتوبر الماضي على قانون يعترف بإبادة الأرمن في ظل الإمبراطورية العثمانية، وهو ما ترفضه تركيا، وقد أثار الاعتراف الأمريكي بـ “الإبادة الجماعية للأرمن” موجة غضب واسعة في تركيا وصب مزيدا من الزيت على نار العلاقات المتوترة بين البلدين، واعتبر إردوغان أن القرار الأمريكي يمثل “أكبر إهانة” للشعب التركي .
وقبل قضية الأرمن كانت آخر الأزمات التي شهدتها العلاقات التركية الأمريكية هو الخلاف الواضح بين تركيا والولايات المتحدة بسبب الغزو التركي لشمال سوريا فيما عرف بعملية نبع السلام، والتي سعت من خلالها تركيا لطرد المقاتلين الأكراد من منطقة الحدود مع سوريا وإقامة منطقة آمنة في تلك المنطقة، وهذه العملية العسكرية التركية ضد أكراد سوريا والتي جاءت بعد إعلان ترامب سحب القوات الأمريكية المنتشرة على نقاط حدودية في شمال شرق سوريا أثارت موجة من الغضب داخل الأوساط السياسية الأمريكية ضد ترامب وإدارته ما دفعه لتوجيه تحذير شديد اللهجة لاحقا لتركيا وهدد بـ”تدمير” الاقتصاد التركي وأمر بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا، وهي العقوبات التي تم رفعها عقب التوصل إلى اتفاق حول سوريا في منتصف أكتوبر الماضي بعد أن أوفد ترامب نائبه مايك بنس ووزير خارجيته إلى أنقرة لحل الأزمة بشأن الموقف من أكراد سوريا.
وعلى هذه الخلفية جاءت زيارة الرئيس التركي لواشنطن والتي ذهب إليها حاملا العديد من الملفات والأزمات العالقة بين الطرفين، وباحثا عن حلول تطمئن الحليف الأمريكي وتخفف غضبه على أنقرة .
قضايا عديدة ناقشها إرودغان مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان على رأسها الوضع في شمال سوريا وملف الأكراد السوريين و مكافحة الإرهاب ومستقبل تنظيم داعش، فضلا عن علاقات التعاون الاستراتيجي بين البلدين ضمن حلف الناتو.
ويرى مراقبون أنه وبغض النظر عن الموقف من إردوغان ومواقفه وسياساته التي كثيرا ما أغضبت واشنطن -ولا تزال – فإن تركيا تظل بلدا مهما بالنسبة للولايات المتحدة، كونها شريكا تجاريا مهما من ناحية وحليفا للناتو.
ففي مقال لها نشرته منتصف شهر أكتوبر الماضي قالت صحيفة لوس أنجلويس تايمز الأمريكية : “إنه وبالرغم من أن ترامب جلب معه مستوى جديدا من الاضطراب في التعامل مع تركيا، إلا أن أنقرة طالما كانت حليفا شائكا وإشكاليا”، وأشارت الصحيفة إلى أن تركيا عضو في حلف الناتو منذ عام 1952، لكن خلال السنوات الأخيرة شهدت أجندة إردوغان اصطداما مستمرا مع أجندات أمريكا وباقي أعضاء الحلف الآخرين في أوروبا.
المصدر /أ ش أ