تحت عنوان “تصدع الأسطورة الطائفية” جاء مقال الكاتب محمود الريماوي فى صحيفة الخليج الإماراتية حول الاحتجاجات فى العراق ولبنان ورفض الواقع الذى فرض الطائفية والمحاصصة فى البلدين حيث كتب:
جاءت الاحتجاجات التي تشهدها بلاد الرافدين وبلد الأرز، لتصيب واحدة من أسوأ الأساطير وأخطر الآفات الاجتماعية، ونعني بها الطائفية والمحاصصة في المراكز الرسمية على أسس طائفية. ولأمد طويل من الزمن تبدت هذه الأسطورة في بلد مثل لبنان وكأنه لا حياة لهذا البلد الجميل بدونها. علماً بأن هذا الخيار الدستوري الذي لم يلبث أن تحول إلى أمر واقع اجتماعي وقانوني وثقافي، لم يكن في الأصل خيار اللبنانيين؛ إذ إن المستعمر الفرنسي هو من وضع لبناته الأولى في أربعينات القرن الماضي.
وشيئاً فشيئاً أثمر هذا الخيار عن اصطفافات اجتماعية ومناطقية، وظهرت زعامات ربما ما كان لها أن تظهر، لولا تصنيف الناس إلى أبناء طوائف بدلاً من وضعهم الطبيعي مواطنين متساوين.. ومع الزمن باتت مصلحة هذه الزعامات تكمن في استمرار المحاصصة الطائفية، فهذا هو السبيل المضمون لاستمرار وجود هذه الزعامات في مناطقها.
يتجاهل الزعماء السياسيون الطائفيون، الرسالة النبيلة التي يحملها المحتجون برفعهم العلم اللبناني وحده من دون غيره من الرايات، مع ذوبان الانتماء الطائفي لدى الأجيال الجديدة.. بل حتى لدى أجيال متقدمة في السن، أمضت عمرها وهي تحلم بأن ينجح الناس في إعادة اكتشاف ما يجمعهم والتوحد تحت الراية الوطنية، والتمتع باعتبار الوطن كله ملكاً للجميع ومفتوحاً أمامهم بغير استثناء، ومن دون حساسيات مضخمة ومزعومة ولا تجد لها سنداً على أرض الواقع.
تتجاهل الزعامات هذه الدعوة النبيلة لصياغة تشريعات تحد من التصنيف الطائفي، وإن كان بعضهم يُداهن بموافقته على مكافحة هذه الآفة، وهو ما يتطلب إرادة سياسية وعقلية جديدة كتلك التي يعبّر عنها الشبان بصورة سلمية وحضارية، وبأكبر قدر من التعلق بالوطن، والانتماء إلى الشعب الواحد والإيمان بمستقبل أفضل يضع حداً للمعيقات البنيوية، ويستأصل الفساد الذي تثرى من خلاله زعامات وتشبيكات تتاجر بالطائفية.
وتعتمد مجموعات أخرى سياسة الإنكار للأصوات التي يطلقها الناس، ممن يخشون أن تتأثر مصالحهم لو أن لبنان سار على طريق تجديد نظامه السياسي وجعله منتمياً للعصر.
والراجح أن المطالب الشعبية، ستتكرس شيئاً فشيئاً، والمأمول بأكبر قدر من الأمان والسلاسة، فالشعارات التي يرددها سياسيون لا قيمة لها إذا لم تجد طريقها إلى التشريع، بما في ذلك قانون انتخاب عصري بعيداً عن القيد الطائفي.
أما في بلد الرشيد، العراق، فإنه لم يسبق أن نشأ نظام في هذا البلد على أسس طائفية وكما هو معمول به منذ 16 عاماً. أجل كانت هناك تظلمات وجيهة لطوائف، وكانت هناك مثالب كبيرة تحف بهذا النظام أو ذاك، لكن تقسيم الشعب إلى طوائف وأعراق وأكثريات وأقليات لم يكن مُقنناً، وبالتالي فإن التجاوزات والتعديات لم تترك كبير أثر في النسيج الاجتماعي، وبقي العراقيون على مر تاريخهم عائلة وطنية واحدة، وإن بتيارات سياسية وفكرية شتى.
ومعلوم أن الحاكم الأمريكي للعراق بول برايمر هو من وضع نظام المحاصصة الطائفية في عام 2003، ووفق هذا النظام نشأ مجلس الحكم وهو أول هيئة سياسية عليا تدير البلاد، وقد تم تشكيل المجلس على أسس مذهبية صريحة. ولم يخضع هذا النظام لاستفتاء شعبي على الرغم من أنه مس مصير العراقيين بصورة مباشرة، وسرعان ما انعكس على النسيج الاجتماعي؛ حيث أصبح أبناء الشعب الواحد يصنفون لأول مرة في تاريخهم على أسس طائفية ومذهبية.
وها هي موجة الاحتجاجات ترفع كما في لبنان الراية الوطنية وحدها، التي تجمع أطياف المجتمع وشتاته في مختلف المناطق
وكما في لبنان، فإن هذا الطرح النبيل يشكل إرباكاً لا مثيل ولا سابق له لزعامات اجتماعية وسياسية، ما كان لها أن تظهر وتتسيد لولا الوباء الطائفي الذي اجتاح بلد المأمون بغير إرادة من شعبه.
ويسترعي الانتباه أن الوعود الرسمية بالإصلاح ناهيك عن كونها وعوداً خلّبية، فإنها تقفز عن المطلب الشعبي بوقف التقسيم الطائفي، والاحتكام إلى الهوية الوطنية الجامعة، مع أخذ حقوق الجميع في سائر المناطق بالاعتبار، ومع الحاجة إلى إيلاء أبناء المناطق المهمشة والمتضررين من موجات الإرهاب وانفلات القانون، عناية خاصة لجبر الأضرار التي لحقت بهم. والآن فإن مستقبل لبنان، وكذلك مستقبل العراق، بات في جانب رئيسي منه منوطاً بوضع تشريعات عصرية تطوي صفحة التصنيف المذهبي والطائفي.
المصدر : صحيفة الخليج