رغم أن كل المؤشرات التحليلية تؤكد أن الاتفاق الروسي التركي الأخير في سوتشي بشأن تطورات الأوضاع في شمال سوريا، قد رسخ لقيادة روسية في المنطقة بعد انسحاب الولايات المتحدة وخلق واقعا جديدا جاء في صالح موسكو أولا ثم النظام السوري ثم تركيا، إلا أن صراع المصالح والنفوذ بين موسكو وواشنطن قد تجدد مع قرار واشنطن حماية النفط بسوريا.
وبالتوازي مع تسريع تحركاتها العسكرية والدبلوماسية لضمان تنفيذ اتفاق سوتشي مع أنقرة، شنت موسكو هجوما قويا على قرار الولايات المتحدة نشر قوات في منطقة شرق الفرات، واتهمتها بما زعمته مواصلة “سرقة النفط السوري” والتصرف على طريقة وصفتها روسيا بـ “قطاع الطرق”، ونشرت وزارة الدفاع الروسية خرائط وصورا التقطتها وسائل الرصد الجوي قالت إنها تظهر مسارات تهريب الثروات السورية، وقدرت حجم “السرقات” بـ 30 مليون دولار شهريا.
وأعلن الكرملين أن تطورات الوضع في سوريا كانت محورا أساسيا للنقاش خلال اجتماع لمجلس الأمن الروسي دعا إليه مؤخرا الرئيس فلاديمير بوتين، وقال الناطق الرئاسي ديمتري بيسكوف إن الاجتماع ركز على سير تطبيق مذكرة التفاهم الروسية التركية والوضع حول شمال شرقي سوريا، وأنه “جرى تبادل شامل للآراء حول تنفيذ المذكرة المتفق عليها بين رئيسي روسيا وتركيا، وحول الوضع في سوريا عموما”.
وفي تعليقه على إعلان وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر، نية البنتاجون تعزيز وجوده العسكري في الحقول النفطية في محافظة دير الزور، حذر نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف من “تعقيدات جديدة” تسعى واشنطن إلى وضعها، وشدد على أنه “لا يجب أن يغري العمل الذي قامت به قيادتا روسيا وتركيا في الفترة الأخيرة، أي طرف يسعى لإعادة رسم الملامح أو إدخال تغييرات على الوضع مجددا”.
ولفت ريابكوف إلى أن القلق الروسي يتزايد بسبب “الإشارات المتباينة” من جانب واشنطن بشأن خططها ونياتها في سوريا، موضحا أن هذه التباينات سببها مواصلة (واشنطن) الاعتماد على النهج السابق الساعي لتعزيز مجالات الضغط متعدد الأطراف على الحكومة الشرعية في دمشق، محذرا من أن موسكو “لا يمكن أن تقبل بهذا المسار، وهذه النقطة لا يمكن أن تكون عنصر اتفاق بين موسكو وواشنطن”.
صراع على النفط السوري
يرى خبراء ومحللون أن الاستراتيجية الجديدة للرئيس الأمريكي دونالد ترمب في سوريا التي تقضي بحماية الحقول النفطية في شرق سوريا، بعيدة عن الواقع ومشكوك في شرعيتها.
وكان الرئيس الأمريكي قد أعلن في السادس من أكتوبر الجاري، سحب العسكريين الأمريكيين الألف المنتشرين في شمال شرقي سوريا، مفسحا بذلك المجال لعملية عسكرية تركية ضد “قوات سوريا الديمقراطية”، التي يشكل الأكراد المكون الرئيسي فيها، وحليفة واشنطن في مكافحة المتطرفين، لكن ترامب قال “إن عددا قليلا من الجنود الأمريكيين سيبقون في سوريا في المناطق التي تحوي نفطا”، مؤكدا “قمنا بضمان أمن النفط، وسنقوم بحمايته وسنقرر ماذا سنفعل في المستقبل”.
وقد أعلن وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر، نية واشنطن الدفاع عن حقول النفط السورية في دير الزور، الأكبر في البلاد قرب الحدود مع العراق حيث ينتشر 200 جندي أمريكي. وقال إسبر في حلف شمال الأطلسي: “نتخذ حاليا تدابير لتعزيز مواقعنا في دير الزور وسيشمل ذلك قوات وآليات للتأكد من أن تنظيم داعش لن يتمكن من الوصول إلى مصدر يؤمن له إيرادات تسمح له بضرب المنطقة أو أوروبا أو الولايات المتحدة”.
وتتذرع واشنطن بتواجد قواتها، بهدف منع تنظيم داعش من الاستيلاء على الحقول النفطية الكبرى في سوريا، التي يسيطر عليها حاليا التحالف الكردي العربي ممثلا بـ”قوات سوريا الديمقراطية”، في محافظة دير الزور (شرق) شرق الفرات، في موقع غير بعيد عن الحدود العراقية.
لكن هذه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تشكل، برأي نيك هيراس، تحولا كاملا للولايات المتحدة التي كانت تبرر وجودها على الأرض السورية رغما عن رأس النظام بشار الأسد، بمكافحة تنظيم «داعش».
وقال الخبير في النزاع السوري في مركز الأمن الأمريكي الجديد، إن إدارة ترامب تحاول “جعل أفضل الموارد النفطية للبلاد رهينة واستخدامها عملة للمقايضة، من أجل إجبار نظام الأسد وحماته الروس على قبول مطالب الولايات المتحدة، خلال تسوية سياسية للنزاع السوري”.
وأضاف نيك هيراس أن “مهمة الولايات المتحدة تحولت من القتال النبيل في مواجهة أكثر منظمة إرهابية مكروهة في العالم إلى مناورة وهمية لإجبار الأسد على تغيير سلوكه عبر مصادرة النفط السوري”.
وكان ترامب قد اقترح مؤخرا بأن تقوم الولايات المتحدة بإرسال واحدة من كبريات المجموعات النفطية لاستغلال النفط السوري بالاتفاق مع موسكو وإيداع الأرباح في صندوق للتنمية يوضع بتصرف الدولة السورية بعد انتهاء النزاع، لكن الروس لم تعجبهم الفكرة ولن تعجبهم اليوم أيضا.
روسيا تعزز وجودها في سوريا
يكشف الصراع بين واشنطن وموسكو حول النفط السوري، حقيقة تبادل الأدوار وتقاسم الأعباء والمنافع، حيث جاء هذه الصراع والتنافس المتجدد بين موسكو وواشنطن بعد توقيع الاتفاق الروسي التركي، وانسحبت القوات الكردية من مواقع عدة في شمال شرقي سوريا حدودية مع تركيا؛ تطبيقا لاتفاق أبرمته موسكو وأنقرة مكنهما من فرض سيطرتهما مع دمشق على مناطق كانت تابعة للإدارة الذاتية الكردية، في وقت بدأت موسكو تسيير دورياتها شمال شرقي سوريا وأعلنت عزمها إرسال المزيد من قوات الشرطة العسكرية لسوريا خلال أيام.
وبدأت القوات الروسية بموجب الاتفاق تسيير أولى دورياتها في المناطق الشمالية قرب الحدود مع تركيا، لتملأ بذلك فراغا خلفه انسحاب القوات الأمريكية، في وقت نوه الرئيس دونالد ترمب بالاتفاق الروسي – التركي.
ويقضي الاتفاق الذي توصلت إليه روسيا وتركيا بانسحاب القوات الكردية من منطقة حدودية مع تركيا بعمق 30 كلم وطول 440 كلم؛ ما يعني تخلي الأكراد عن مدن رئيسية عدة كانت تحت سيطرتهم.
ويتعين على الشرطة العسكرية الروسية وحرس الحدود السوري بموجب الاتفاق الذي تم توقيعه في سوتشي في روسيا، تسهيل انسحاب قوات سوريا الديمقراطية التي تعد الوحدات الكردية عمودها الفقري، مع أسلحتها من المنطقة الحدودية، خلال مهلة 150 ساعة تنتهي اليوم الثلاثاء.
وكانت قوات سوريا الديمقراطية قد انسحبت في وقت سابق الأسبوع الماضي من منطقة حدودية ذات غالبية عربية تمتد بطول 120 كلم من رأس العين حتى تل أبيض، على وقع تقدم أحرزته القوات التركية والفصائل الموالية لها في إطار هجوم بدأته في التاسع من أكتوبر الحالي.
وترغب تركيا في مرحلة أولى في إقامة “منطقة آمنة” بين رأس العين وتل أبيض تنقل إليها قسما كبيرا من 3.6 مليون لاجيء سوري يقيمون على أراضيها منذ اندلاع النزاع عام 2011. وبموجب اتفاق سوتشي، ستبقى هذه المنطقة تحت سيطرة القوات التركية والفصائل السورية الموالية لها، بخلاف المناطق الحدودية الأخرى، حيث ستسير تركيا وروسيا دوريات مشتركة.
يبقى القول إن استعادة شمال شرق سوريا مثل أولوية بالنسبة إلى دمشق كون المنطقة غنية بحقول النفط الغزيرة والسهول الزراعية، كما مثل مطمعا أمريكيا باستمرار تواجد عدد من قواتها العسكرية بزعم حماية النفط، الأمر الذي أثار استنكار روسيا التي طالبت بمغادرة أي جنود أمريكيين باقين، وبات الوضع مثيرا للتوتر والقلق بين واشنطن وموسكو، ومنذرا بتأثيرات سلبية على الالتزام ببنود اتفاق سوتشي.
المصدر : أ ش أ