كشفت التطورات السريعة والمتلاحقة للعدوان العسكري التركي على شمال شرق سوريا، أن ثمة تغييرات محتملة في تقاسم المصالح وتغير نمط تحالفات القوى المنخرطة في الأزمة السورية، بعدما ظهر تنافساً محموماً تلوح في الأفق بوادره، متمثلاً في السباق بين أنقرة ودمشق لملء الفراغ شمال شرقي سوريا بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تكليف وزارة الدفاع (بنتاجون) وضع خطة لانسحاب مدروس للقوات الأمريكية.
وأعلن وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر، أنه يعمل بناء على أوامر من الرئيس دونالد ترامب، لبدء تنفيذ انسحاب القوات من شمال سوريا وبعد نقاشات مع باقي أعضاء فريق الأمن القومي سيكون الانسحاب لأقل من ألف جندي أمريكي.
ولم يحدد إسبر موعداً للانسحاب، واكتفى بالقول إنه يريد تنفيذه “بأمان وفي أسرع وقت ممكن”، ووفقاً لمسؤولين أمريكيين “فإن الولايات المتحدة تبحث خيارات عدة، لكن الجيش الأمريكي سيسحب على الأرجح معظم قواته خلال أيام وليس أسابيع”.
ويصف محللون موقف الرئيس ترامب بأنه “الهروب الأمريكي الكبير”، مذكرين بأمثلة سابقة لانسحاب أمريكا، من فيتنام عام 1973، عندما سحبت قواتها لتسقط سايجون بأيدي الشيوعيين عام 1975، ثم عاودت الكرّة مع اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 لتترك الشاه يتسول لجوءاً سياسياً رفضت منحه له ليعيش بمصر حتى وفاته، وتحاول أمريكا الآن الخروج من أفغانستان بالتفاوض سراً مع طالبان.
ودفع هذا التذبذب في الموقف الأمريكي، قوات سوريا الديمقراطية “قسد” إلى فتح قنوات تواصل مع النظام السوري، كخطوة استباقية للانسحاب، وفي أثناء المؤتمر التأسيسي الثالث لـ “مجلس سوريا الديمقراطية”، الذي انتهى في 16 يوليو 2018، تم التوافق على البدء بالحوار مع النظام السوري، على أن تفتح مكاتب لها في العاصمة دمشق ومحافظة اللاذقية وحمص وحماة.
وأظهرت تحركات وحدات من القوات التابعة للنظام السوري يوم الأحد الماضي، باتجاه شمال سوريا لمواجهة العدوان التركي، أن هناك حسابات سياسية جديدة لخريطة تحالفات القوى المعنية بالأزمة السورية، بدأت ترتسم ملامحها على أرض الواقع.
كما أعلنت الإدارة الذاتية للمناطق ذات الغالبية الكردية شمالي سوريا أن حكومة الرئيس بشار الأسد وافقت على ارسال قواتها العسكرية، التي من واجبها حماية حدود البلاد والحفاظ على السيادة السورية كي يدخل الجيش السوري وينتشر على طول الحدود السورية التركية لمؤازرة قوات سوريا الديمقراطية لصد هذا العدوان وتحرير المناطق التي دخلها الجيش التركي.
ومن هنا تتكشف احتمالات التحالفات الجديدة الدولية والإقليمية على الأراضي السورية، ويأتي في مقدمتها تحالف أكراد سوريا مع القوات الحكومية من أجل حمايتهم وضمان استمرارهم شوكة في ظهر تركيا، وبالنظر إلى التبعات التي يتركها هذا التحالف على قوة المؤسسات السورية الحاكمة، بما يعضد من اتجاه النظام السوري نحو فرض هيمنته على جزء مهم من الأراضي السورية لإرساء كيان الدولة خلال المرحلة المقبلة.
وإذا كانت أمريكا من وجهة نظر كثير من المراقبين، قد خانت قوات سوريا الديمقراطية التي حاربت معها ضد التنظيم الدولي للإرهاب “داعش” بانسحاب قواتها العسكرية من مناطق نفوذها وتركها تواجه مصيرها المحتوم أمام الغزو التركي، فإن المراقبين يؤكدون أن روسيا كذلك تخون سوريا بالتفاهم مع الأتراك لكي يتوغلوا في أراضيها، مثلما حدث في عفرين ، حسب المراقبين.
ويرى محللون أن التفاهمات تتقاطع بينما الأجندات تتصادم، وموسكو تتشفى في الأكراد الذين تحالفوا مع الأمريكيين، وتلوّح لهم بالعصا والجزرة؛ ولذا بات قوات “قسد” بين خيارين إما أن يكونوا فريسة للقوات التركية، أو أن يفتحوا الطريق لقوات النظام السوري لكي تدخل إلى مناطق وحداتهم بموجب تسوية يتوصلون إليها مع النظام السوري.
ويذهب في هذا الصدد مراقبون يرون أنه إذا كان ثمة صفقة تفاهم بين واشنطن وأنقرة تم الاتفاق عليها خلال المكالمة الهاتفية التي جمعت أردوغان وترامب، فإن تداعيات قرار ترامب، تتعدى شرق الفرات إلى شرق المتوسط والخليج وإيران وموسكو، وربما هذا ما يفسر حالة الهدوء التي تسيطر على دمشق وطهران وموسكو، فهذه الأطراف تدرك أنها ستكون في صدارة الرابحين من هذا القرار.
وتشير تطورات الأحداث إلى أن قرار ترامب بالانسحاب من شمال شرق سوريا، ويكون قد سلم ملف الأزمة السورية إلى روسيا، لتؤكد جدارتها بإدارة الأزمة وفق مصالحها الاستراتيجية من خلال مسار آستانه، تشاركها في إدارته إيران ليصبح ورقة قوية في مجال المساومات بين واشنطن وطهران خلال المرحلة المقبلة.
وكانت طهران قد خططت في السابق لفتح طريق عبر منطقة التنف الحدودية جنوبي سوريا، لكن دخول قوات الولايات المتحدة الأمريكية، وإنشاء قاعدة عسكرية في المنطقة في 2016، خلط الأوراق وأرسل تحذيرات إلى إيران والنظام السوري بعدم الاقتراب من التنف، ما دفع طهران للبحث عن منفذ جديد عبر الأراضي السورية لتتجه أنظارها نحو البوكمال.
وثمة تقديرات سياسية تشير إلى احتمالات وجود تحالف بين روسيا وإيران بشأن الأزمة السورية، عطفاً على العلاقات الاستراتيجية الخاصة بين موسكو وطهران ووفقاً لمبدأ تقاسم المصالح والنفوذ، عكستها المواقف المشتركة من القضايا السياسية والأمنية والاقتصادية والتجارية والمناخية العالمية في الآونة الأخيرة.
ويبقى القول أن ورقة الأكراد ـ الذين يتراوح عددهم بين 25 و35 مليون نسمة، ويتوزعون بشكل أساسي في أربع دول هي تركيا وإيران والعراق وسوريا ـ ستظل ورقة استراتيجية مهمة يسعى كل طرف من أطراف القوى الدولية عامة والإقليمية خاصة التي يتواجد فيها أكراد، إلى توظيفها التوظيف السياسي الأمثل لمصالحها القومية العليا وستظل سوريا مجالا لتوزيع موازين القوى لحين استكمال أعمال مسيرة اللجنة الدستورية السورية والقيام بكافة المهام المنوطة بها، تحقيقاً لأمن واستقرار ووحدة الأراضي السورية.
المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)