تتجه العلاقات الفرنسية ـ الروسية نحو تدشين مرحلة جديدة في تطبيع العلاقات الثنائية والتفاهم على إطلاق آليات لتعزيز الحوار، وتقريب وجهات النظر في الملفات الخلافية، الأمر الذي يثير العديد من التساؤلات حول دلالات هذا التقارب والأهداف الاستراتيجية العليا للبلدين، ومردوداته على هيكل وقوى النظام العالمي الذي نشأ في أعقاب انتهاء الحرب الباردة.
فقد كشفت الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” خلال أغسطس الماضي إلى باريس تلبية لدعوة من الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، وتلاها المحادثات الروسية – الفرنسية، التي جرت مطلع الأسبوع الحالي بموسكو، على مستوى وزراء الخارجية والدفاع في البلدين، عن حجم التقارب الحادث في العلاقات بين البلدين.
قضايا وملفات ساخنة
جاءت نتيجة هذه اللقاءات كاشفة عن رغبة الطرفين في التقارب، فعلى الجانب الروسي، قال وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف “إن موسكو تُقيّم إيجابياً الأفكار التي عبر عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حول تطبيع العلاقات بين موسكو وباريس، وإن موسكو تؤيد المبادرات التي تقدمها فرنسا والتي تعمل على تعزيز التعاون الروسي – الفرنسي على الساحة الدولية في ضوء جهودنا الهادفة إلى التسوية الجماعية لكل القضايا المعاصرة يتفق بالكامل مع موقف الرئيس فلاديمير بوتين، ومع المصالح الروسية”.
وأعرب لافروف عن ترحيب موسكو باستئناف الاجتماعات بصيغة “2 + 2″، وهو الأمر الذي جاء نتيجة اتفاق الرئيسين بوتين وماكرون في وقت سابق، علماً بأن الاجتماعات الروسية – الفرنسية بهذه الصيغة الموسعة كانت قد توقفت منذ 7 سنوات.
وجدد لافروف تأييد موسكو التحرك الفرنسي على صعيد مساعي تقريب وجهات النظر بين واشنطن وطهران، وقال إن “روسيا وفرنسا تنويان مواصلة التعاون من أجل الحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران، وأنه لا يوجد بديل معقول لهذا الاتفاق”.
وأكد القول: “اتفقنا على مواصلة التعاون من أجل الحفاظ على خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن البرنامج النووي الإيراني، هناك قناعة مشتركة بأنه لا يوجد بديل معقول لهذه الخطة، ونحن نرحب – وقد تم تأكيد ذلك في محادثة هاتفية مؤخراً بين الرئيسين فلاديمير بوتين وإيمانويل ماكرون – بالمبادرة التي اتخذتها فرنسا ورئيسها للتوصل إلى اتفاقات تسمح بالحفاظ على خطة العمل الشاملة بالكامل، مع ضمان المصالح الاقتصادية المشروعة لإيران المدرجة في هذه الخطة”.
فروسيا وفرنسا تهدفان لتجنب أي شكل من أشكال التصعيد للتوترات في منطقة الشرق الأوسط أو انهيار الاتفاق النووي الذي يعتبرونه “مكسبًا نوويًا”، كما يحافظ على المصالح الاستراتيجية، سواء لباريس وموسكو في المنطقة.
كما نجحت هذه اللقاءات في تغيير مواقف الطرفين تجاه أبرز الملفات العالقة بينهما، ولا سيما الملفين السوري والأوكراني، وساهمت في التقريب بين المواقف في إطار سياسة كل طرف ومصالحه السياسية والاستراتيجية في الأزمتين.
من جانبها ، تبدو فرنسا أكثر رغبة في التقارب مع روسيا وتطبيع العلاقات لضمان التحول المتناغم للنظام العالمي، واعتبرت أنه حان الوقت لتهدئة التوتر مع روسيا، وقال وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، إن هناك ما اعتبره “نافذة لفرصة” لحل النزاع الأوكراني بعد تبادل مهم للسجناء بين موسكو وكييف مؤخراً.
علاوة على ذلك، أعلن الناطق باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، أن بوتين أكد للرئيسين الفرنسي إيمانويل ماكرون والأوكراني فلاديمير زيلينسكي، رغبته في استئناف العمل في إطار “مجموعة نورماندي” وأنه “لا بديل عن محادثات “نورماندي” لرؤساء الدول، والتي تضم فرنسا وألمانيا وأوكرانيا وروسيا، حول الأزمة الأوكرانية مع ضرورة الإعداد الموضوعي لهذا اللقاء من أجل جعله أكثر فعالية.
وكان “زيلينسكي” دعا إلى عقد جولة جديدة من المحادثات في إطار نورماندي، وهو ما يعني إمكانية تهيئة الموقف الروسي بما يمهد للتوصل لاتفاق لإنهاء هذا الصراع.
وفيما يتعلق بالأزمة السورية، والتي تعد الأكثر تعقيدا في العلاقات الروسية – الفرنسية، أكد “ماكرون” ضرورة وقف الهجوم في منطقة إدلب الشمالية ومعالجة الأزمة الإنسانية هناك، والسيطرة على تدفقات اللاجئين نحو تركيا، فيما أشار “بوتين” إلى أن إدلب يسكنها الإرهابيون، مؤكدًا استمرار روسيا في تقديم الدعم للجيش السوري للقضاء على الإرهاب هناك.
وبالرغم من ذلك الاختلاف، اتفق الرئيسان على ضرورة مكافحة منابع الإرهاب في سوريا، وعلى أهمية الدور الذي تلعبه روسيا في الأزمة السورية، والسعي نحو إيجاد صيغة تفاهمية لإنهاء الصراع في سوريا.
رؤى استراتيجية
لا شك أن رغبة باريس وموسكو للتقارب وتطبيع العلاقات لا تخلو من رؤى وأهداف استراتيجية لكل طرف طالما أن خريطة التحالفات الدولية وهيكل النظام العالمي قد تغيرت بعد انتهاء فترة الحرب الباردة.
فباريس ترنو إلى تحقيق الغايات والأهداف الاستراتيجية التالية: أولاً، سياسة ملء الفراغ وهي أن يكون لها الريادة داخل منظومة الاتحاد الأوروبي، في التصدي للمشكلات الأوروبية والدولية بسياسة دبلوماسية قائمة على الحوار وحل المشكلات بالطرق السلمية، وهي سياسة يسعى لها “ماكرون” منذ توليه السلطة في عام 2017، خاصة في الأزمات الإقليمية والدولية التي تعتبر فيها روسيا أحد الفاعلين الأساسيين والأكثر قوة ومنها الأزمة السورية.
ويرتبط الهدف الثاني في غاياته بالأول حيث ترغب باريس أن تلعب دور الوسيط الذي يسعى لتقريب وجهات النظر بين روسيا وبين الدول السبع الكبرى الأخرى، ومحاولة إعادة روسيا مجدداً إلى هذا النادي الأوروبي مرة ثانية.
وثالثاً: تهدف باريس إلى طمأنة دول الاتحاد الأوروبي وإزالة مخاوفهم وشكوكهم من روسيا ونظرتها للدول الأوروبية، ويرتبط مناط تحقيق هذا الهدف والرؤية الاستراتيجية الفرنسية من اعتبارين، الأول وهو التوتر الحاصل في العلاقات الأوروبية ـ الأمريكية ونظرة ترامب للطرفين، ففي الوقت الذي يبدي إعجابه بروسيا “بوتين”، يطالب دول الاتحاد الأوروبي بتولي مسئولية حماية أنفسهم من أية تهديدات، أو الدفع مقابل توفير الحماية الأمنية، خاصة في ظل عدم رغبة “ترامب” في الدفاع عن أوروبا، ودعمه تفكيك الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
في حين يتعلق الاعتبار الثاني بالمستقبل الاقتصادي لدول الاتحاد الأوروبي على ضوء الأزمة المستمرة بين طهران وواشنطن بشأن الملف النووي الإيراني والحرب التجارية القائمة بين الصين وأمريكا من ناحية ثانية. فالرؤية الفرنسية في هذا السياق هي التقليل من المخاوف الأوروبية إزاء التقارب الروسي-الصيني، سواء على المستوى الاقتصادي أو الأمني.
ينبع ذلك من فلسفة سياسية فرنسية تعتبر روسيا كما وصفها الرئيس ماكرون “جزءا من أوروبا”، وأنه يتعين العمل معها من أجل “بناء هندسة جديدة” للأمن في أوروبا ما من شأنه ربطها بالعربة الأوروبية وإبعادها عن “النظر شرقا” أي باتجاه الصين.
أما موسكو فتهدف إلى تحقيق عدد من الغايات والأهداف الاستراتيجية منها: الظهور أمام أوروبا بمظهر المستعد للتعاون بما قد يخفف من العقوبات الأوروبية المفروضة على موسكو والتي أضرت كثيرًا بالاقتصاد الروسي، ويدفع نحو تعزيز العلاقات الروسية الأوروبية.
ناهيك عن رغبة الرئيس الروسي “بوتين” في إيصال رسالة سياسية إلى العالم الخارجي وإلى الداخل الروسي ذاته، مفادها أن سياسته الخارجية واقعية أكثر منها مثالية ولم تضر بمكانة روسيا الدولية، وإلى الداخل من أجل إخماد أصوات منتقديه، سواء من الرأي العام الداخلي في روسيا أو الرأي العام العالمي.
يبقى القول إن مستقبل العلاقات الروسية الفرنسية يحمل آفاقاً واعدة، سواء على المستوى الثنائي أو المستوى العالمي من خلال ما تتركه هذه الآفاق من تأثيرات قوية على هيكل وقوى النظام العالمي وعلى قضايا الشرق الأوسط.
المصدر : أ ش أ