تشير تصريحات المبعوث الأمريكي إلى سوريا جيمس جيفري، بشأن استمرار مباحثات واشنطن مع تركيا حول ما يسمى بـ”المنطقة الآمنة” شمالي سوريا، إلى ديمومة الحوار الأمني بين واشنطن وأنقرة بعدما عُقد أمس في أنقرة ثاني اجتماع للعمل المشترك بين المسؤولين العسكريين الأتراك والأمريكيين.
وكان الاجتماع الأول في هذا الإطار قد عقد خلال الفترة من 22 ـ 24 يوليو الماضي ، وفشلت المباحثات في التوصل إلى إنهاء الخلافات بين أنقرة وواشنطن بشأن عمق وأبعاد المنطقة الأمنة، ولمن تكون السيطرة عليها، وسحب أسلحة ميليشيا الوحدات الكردية.
وتعكس تصريحات جيمس جيفري الأهمية الاستراتيجية التي توليها الولايات المتحدة الأمريكية لفكرة إقامة هذه المناطق الآمنة ولتضمن بقاء قواتها العسكرية في سوريا، تحقيقاً لمصالحها الاستراتيجية، بعدما تحدثت موسكو بشكل رسمي عن تزايد الوجود العسكري الأمريكي”غير الشرعي” في سوريا.
فقد أوضح جيفري أن ثمة خلافات شديدة بين تركيا والولايات المتحدة حول الوضع في شرق الفرات عموما وحول المنطقة الآمنة وكذلك المقاتلين الأكراد، الذين تعتبرهم واشنطن حليفا لها. وتقول أنقرة إنها تشعر باستياء متزايد تجاه الولايات المتحدة حليفتها الأطلسية.
ومنذ إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في العام الماضي اعتزامه سحب القوات الأمريكية من شمال سوريا، اتفق البلدان العضوان بحلف شمال الأطلسي على إقامة منطقة آمنة داخل سوريا على حدودها الشمالية الشرقية مع تركيا، لكنهما لم يتفقا على عمق هذه المنطقة والقوات التي ستشرف عليها، إذ ترفض أنقرة أي دور أو وجود لوحدات حماية الشعب الكردية فيها.
كانت وحدات حماية الشعب الكردية حليف واشنطن الرئيسي على الأرض في سوريا خلال المعركة ضد تنظيم “داعش” ، لكن تركيا تعتبر هذه الوحدات منظمة إرهابية.
وقال جيفري إن “المشروع الجديد بشأن المنطقة الآمنة يتضمن أن تدير هذه المنطقة قوات أمريكية وتركية مشتركة”، مضيفاً ” الموقف التركي متشدد للغاية، لكننا سنواصل مباحثاتنا على مختلف الأصعدة، ومنها المحادثات في الجانب العسكري، والعمق المناسب للمنطقة الآمنة من وجهة نظرنا هو بين 5 و15 كم على أن يتم سحب الأسلحة الثقيلة إلى أكثر من ذلك”.
وأضاف”هناك بعض الاختلاف في وجهات النظر بين أنقرة وواشنطن، لكننا لا نركز عليها كثيرا، بل نريد التعامل مع كيفية عمل أمريكا والأتراك في هذه المنطقة، نحن نريد العمل معهم، وهذا الاتفاق هو ما يمكن أن نقدمه لأهالي شمال شرقي سوريا، وهو مهم جدا”.
يشار إلى أن المنطقة الآمنة هي منطقة جغرافية معينة وسط مناطق الصراعات تصلح لإقامة ومعيشة المدنيين تحت إدارة قوة موحدة، ويستلزم لإقامة المنطقة الآمنة قوة برية لفرض السيطرة على الأرض، وأخرى جوية لحماية الغطاء الجوي وحمايته من أي قصف معادٍ، وأخيرًا قوة بحرية لحماية الشواطئ حال تحديد منطقة آمنة لها سواحل.
كان الرئيسان الأمريكي دونالد ترامب والروسي فيلاديمير بوتين قد اتفقا على إنشاء ثلاث مناطق آمنة في سوريا على ألا توجد بها الميليشيات الإيرانية، وحتى تُنشأ منطقة آمنة يستلزم ذلك موافقة الدولة صاحبة السيادة على الأرض وكذلك الأطراف المتصارعة، أما في حالة عدم سيطرة الدولة على المناطق المتصارع عليها يستلزم ذلك موافقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن على التدخل عسكريا لفرض المنطقة الآمنة.
يسيطر الجيش السوري على العاصمة دمشق والساحل ومدينة حلب التي بسط سيطرته الكاملة عليها مؤخراً، بينما يسيطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مساحات كبيرة من الأراضي السورية خاصة الجنوبية منها على الحدود مع العراق.
إطالة أمد الحوار
ثمة متغيرات سياسية شائكة تدفع في اتجاه إطالة أمد الحوار الأمريكي مع تركيا بشأن المناطق الآمنة، وسط تجاذبات سياسية طرفيها موسكو وإيران وحسابات مصالح بعض القوى الإقليمية الأخرى.
أول العوامل المحفزة والدافعة لواشنطن للتأكيد على استمرار المباحثات حول ما يسمى بـ”المنطقة الآمنة” شمالي سوريا ، تأكيد وزير الدفاع الأمريكي الجديد مارك اسبر على أن بلاده ستبقى على قوات في سوريا، وقال، خلال جلسة استماع في الكونجرس في منتصف يوليو الماضي، أن “القوات المسلحة الأمريكية المتبقية في شمال شرقي سوريا ستبقى هناك كجزء من القوة متعددة الجنسيات لمواصلة الحملة ضد “داعش” ، مضيفًا: “حرصًا على أمن العمليات لن أناقش عدد القوات أو المواعيد النهائية للإجلاء”.
ولعل إشارة اسبر حول تشكيل “قوة متعددة الجنسيات” يشير إلى أن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) بصدد إعادة هيكلة الوجود العسكري في سوريا، وسط ترجيحات بأن تلك القوات ستتمركز في مناطق الأكراد بشمال شرق سوريا التي يجرى التفاوض حولها.
يرتبط العامل الثاني بالأول وهو عدم حسم ملف الأكراد : وهو ما عبر عنه مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون ، في تصريحات له خلال زيارته لإسرائيل في 6 يناير الماضي، قال فيها أن “خروج القوات الأمريكية من سوريا يقتضى ضمان وجود اتفاق لحماية الأكراد”، لا سيما في ضوء الخلافات القائمة بين واشنطن وأنقرة في هذا السياق، حيث أن الأخيرة تعتبر “قسد” منظمة إرهابية وهدفًا لعملياتها في سوريا، وكانت تستعد لملء الفراغ الأمريكي بعد إعلان ترامب سحب قواته من سوريا.
أما العامل الثالث وهو الوجود والتدخل الإيراني في ملف الأزمة السورية: إذ لا تزال الولايات المتحدة ترى أن الوجود الإيراني في سوريا يشكل تهديدًا لمصالحها ومصالح حلفائها، بل إن العلاقات الأمريكية الإيرانية تزداد تعقيداً وتوتراً وتصعيداً على خلفية التهديد الإيراني المستمر للملاحة الدولية في مضيق هرمز واحتجازها لثالث سفينة أجنبية بالخليج في أقل من شهر بزعم أنها كانت تنقل وقودا مهربا عبر الخليج لدول عربية، في الوقت الذي تحاول فيه واشنطن تأمين الملاحة في الخليج.
وتواجه الولايات المتحدة صعوبات في إنشاء تحالف دولي في الخليج لحماية السفن التجارية، وكان المقترح ينص على أن يؤمن كل بلد مرافقة عسكرية لسفنه، بدعم الجيش الأمريكي الذي سيتولى الرقابة الجوية في المنطقة وقيادة العلميات ، ورفض الأوروبيون العرض الأمريكي ، لعدم رغبتهم في أن يكونوا جزءا من سياسة “الضغوط القصوى” على إيران التي يعتمدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
يبقى القول أن ثمة ضرورة استراتيجية أمريكية لاستدامة أمد الحوار مع أنقرة بشأن المناطق الآمنة شمالي سوريا، لأن أية مفاوضات أمريكية – إيرانية محتملة غير وارد فيها خروجاً إيرانياً من سوريا ، فضلاً عن أن الحرب على الإرهاب في ضوء الخبرات الأمريكية في العراق لفترة طويلة ضد تنظيم “القاعدة” ثم مع ظهور “داعش” تشير إلى صعوبة القضاء نهائياً على هذه التنظيمات، وبالتالي تعمل واشنطن على بقاء قواتها العسكرية الدائم في الآفاق المنظورة مستقبلاً.
المصدر : أ ش أ