مع دخول تظاهرات “السترات الصفراء” أسبوعها الخامس، لاتزال أجواء التوتر والقلق تخيم على الساحة السياسية الفرنسية على الرغم من التراجع النسبي في مستوى التعبئة للمحتجين يوم أمس الأول السبت ، وهو ما اعتبر مؤشرا مؤقتا يرضى المحتجين عن التدابير الاجتماعية التي أعلنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاسبوع الماضي لرفع مستوى المعيشة، في محاولة لوقف حدة الأزمة واحتواء المظاهرات المندلعة في البلاد منذ أكثر من شهر.
وسجل السبت الماضي تراجعا ملحوظا في أعداد المتظاهرين في المدن الفرنسية حيث تظاهر نحو 66 ألف شخص في مختلف أنحاء البلاد، وهو ما يمثل نصف المشاركين في تظاهرات السبت الرابع في 8 ديسمبر والذي بلغ عددهم 136 ألف متظاهر. وبلغ عدد المحتجين في العاصمة الفرنسية باريس أقل من ثلاثة آلاف مقابل عشرة آلاف الأسبوع الماضي، كما شهدت التظاهرات مواجهات محدودة في عدد من المدن، ولم تسجل أحداث عنف حادة كالتي شهدتها البلاد خلال الأسابيع الاخيرة.
واعتبر الكثيرون أن هذا التراجع الملحوظ في التعبئة جاء ، بدرجة كبيرة ، نتيجة للتدابير الاجتماعية التي أعلنها الرئيس ماكرون في خطابه في العاشر من ديسمبر الجاري، والتي شملت زيادة الحد الأدنى للأجور بـ100 يورو، وإعفاء المتقاعدين الذين تقل معاشاتهم التقاعدية عن ألفى يورو فى الشهر من الضريبة المعروفة بـ “المساهمة الاجتماعية” التى تصب فى تمويل الضمان الاجتماعي، فضلا عن إعفاء ساعات العمل الإضافية من الضرائب والرسوم. وجاءت هذه الإجراءات عقب قرار الحكومة إلغاء زيادة الضرائب على الوقود وتجميد أسعار الكهرباء والغاز لعام 2019 في محاولة لتهدئة احتجاجات حركة “السترات الصفراء” التي اندلعت في 17 نوفمبر الماضي اعتراضا على زيادة الضرائب على أسعار الوقود.
غير أن الإجراءات التي أعلن عنها ماكرون قد أثارت حالة من الجدل داخل صفوف المحتجين، فهناك من نظر إليها وكأنها “بوادر” حل للأزمة وأنه من الضروري إفساح المجال أمام الحوار قبل مواصلة الحركة الاحتجاجية، بينما رأى آخرون أن هذه الإجراءات “غير كافية” أو “غير كاملة” لإيقاف التظاهرات. وحسبما أظهرت استطلاعات الرأي، فإن الدعم الشعبي لمتظاهري السترات الصفراء قد تراجع بعد خطاب الرئيس الفرنسي، حيث أعربت غالبية محدودة من الفرنسيين (54%) عن رغبتها في استمرار الاحتجاجات مقابل 66% في بداية اندلاع الأزمة.
من منظور أكثر شمولا، يتفق فريق واسع من المراقبين على أن الإجراءات التي أعلن عنها ماكرون من شأنها أن تتسبب في أزمة للاقتصاد الفرنسي وتشكل عبئا ثقيلا عليه، فقد قدرت قيمة الإجراءات المالية التى اتخذها ماكرون بحوالي عشرة مليارات يورو، ومن المقرر أن تلجأ باريس إلى مدخرات ميزانية الدولة لتمويل هذه الإجراءات وهو ما قد يؤدى بدوره إلى تجاوز العجز فى الميزانية نسبة الـ3% التى يقرها الاتحاد الأوروبي. وأوضح هذا الفريق من المراقبين أن إلغاء الضرائب على الساعات الإضافية للعمل ستكلف الدولة نحو 3.5 مليار يورو بينما تراوحت تكلفة إلغاء المساهمة الاجتماعية للمتقاعدين، ما بين 1.5 و2 مليار يورو، في حين بلغت تكلفة زيادة الحد الأدني للأجور نحو 1.6 مليار يورو.
وتسببت تظاهرات “السترات الصفراء” في تكبد الاقتصاد الفرنسي خسائر مالية كبيرة لحقت بمختلف القطاعات الحيوية بالبلاد وقدرت بملايين الدولارات، حيث ساهمت في خفض أرباح الشركات التجارية وشركات التوزيع بشكل حاد كما تسببت في إغلاق مئات المحلات التجارية وغلق الطرق الرئيسية، ولحقت ضررا بالغا بقطاع السياحة بعد أن أدى استمرار أعمال العنف إلى إلغاء آلاف السياح حجوزاتهم في موسم الاحتفالات بالأعياد ورأس السنة وهو ما جعل حجم الخسائر مضاعفا. وقد اعترف وزير الاقتصاد الفرنسي، برينو لومير، بتلك الخسائر وأعلن تشكيل خلية أزمة لمساعدة الشركات المتضررة.
وساهمت “السترات الصفراء” بوضوح في تراجع شعبية ماكرون إلى أدنى مستوياتها حيث كشف استطلاع الرأي الذي نشرته صحيفة “لوجورنال دو ديمانش” أمس أن شعبية الرئيس الفرنسي وصلت إلى 23% بعد أن كانت 25% الشهر الماضي. كما تراجعت شعبية رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب ثلاث نقاط من نوفمبر إلى ديسمبر، لتصل إلى 31%.
كما كشف استطلاع آخر أجراه معهد” إيفوب” ونشرته صحيفة ” لوجورنال دو ديمانش” أنه في حالة إجراء الانتخابات الرئاسية الفرنسية حاليا، أي عقب اندلاع تظاهرات “السترات الصفراء”، فإن ماكرون كان سيحصل خلال الجولة الأولى على 25% من الأصوات أي بزيادة نقطة واحدة عما حصل عليه في الجولة الأولى في أبريل 2017. أما المفاجأة الكبرى فكانت من نصيب “مارين لوبن” مرشحة اليمين المتطرف ورئيس التجمع الوطني التي أظهرت الاستطلاعات حصولها على 27% في حالة إجراء الانتخابات حاليا، وهو مايعني ارتفاع شعبيتها ست نقاط عن ما كانت عليه في 2017 حيث حصلت على 21.5% في الجولة الأولى من الانتخابات، ويعكس ذلك الدور الملحوظ الذي لعبته “السترات الصفراء” في تعزيز شعبية اليمين المتطرف على الساحة الفرنسية.
في ضوء ما سبق، يبدو جليا أن حركة “السترات الصفراء” قد وضعت ماكرون أمام مأزق صعب بعد عام ونصف من دخوله الإليزيه، فقد أثرت هذه الأزمة سلبا على صورة الرئيس وأدت إلى اهتزاز مكانته كما ساهمت في تراجع الثقة تجاه حكومة إدوارد فيليب التي بدت قرارتها “متخبطة” وعاجزة عن تقدير النتائج بصورة دقيقة، فقد وجدت شريحة واسعة من الفرنسيين أن الحكومة أثقلت كاهل الطبقات الوسطى والفقيرة بالضرائب مقابل تخفيف ‘الحمل’ عن الأثرياء . ولم تقتنع بما أكدته الحكومة من أن إلغاء ضريبة الثروة ماهو إلا بهدف منع رجال الأعمال الفرنسيين من مغادرة البلاد، واعتبرت الغالبية الفرنسية أنها الفئة المستهدفة بالدرجة الأولى من هذه القرارات.
ورغم أن ماكرون كان لديه فرصة ذهبية لكسب ثقة المواطنين وتعزيز شعبيته في الشارع الفرنسي، في ظل غياب معارضة قوية داخل البلاد مع تراجع مكانة الأحزاب التقليدية، غير أنه لم ينجح في استغلال هذا الفراغ لخدمة مصالحه وتعزيز مكانته بل على العكس زادت الفجوة بينه وبين مواطنيه الذين ينظرون إليه في صورة “رئيس الأغنياء”.
كما نجحت حركة “السترات الصفراء”، التي تفتقد إلى وجود قيادة موحدة، في أن تشكل معارضة حقيقية في وجه الرئيس وأجبرته على التراجع عن قراراته وعرقلت مسيرته الإصلاحية التي كان مصمما على تنفيذها مهما كانت العقبات، وهو ما وضعه أمام رهان محفوف بالمخاطر يهدد مستقبله السياسي ويؤثر على فرص ترشحه لولاية رئاسية جديدة عام 2022.
المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)