يشكل المؤتمر الدولي حول الأزمة الليبية والذي تستضيفه إيطاليا على مدى يومين، أحدث مسعى دولي كبير لايجاد تسوية لهذه الأزمة التي طال أمدها، وانتشال ليبيا من حالة الفوضى وعدم الاستقرار السياسي والأمني التي تعيشها البلاد منذ سقوط نظام الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي عام 2011.
ويعقد المؤتمر، الذي انطلقت أعماله، مساء أمس الاثنين، في مدينة باليرمو بجزيرة صقلية الإيطالية بحضور ممثلي مختلف الأطراف الليبية المتصارعة، ومشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسي وعدد من زعماء وممثلي الدول والأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة المعنية بالملف الليبي وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي وروسيا ودول الجوار الإقليمي لليبيا، إلى جانب المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة.
ويشارك في هذا المؤتمر، الذي يعقد تحت رعاية الامم المتحدة، ممثلو الأطراف والقوى السياسية الليبية الرئيسية وعلى رأسهم فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب، وخالد المشري رئيس المجلس الاستشاري الأعلى للدولةالليبية، إلى جانب المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي، الذي وصل إلى باليرمو مساء أمس بعد تضارب الأنباء عن حضوره للمؤتمر.
ويناقش مؤتمر باليرمو مستقبل التسوية السياسية والانتخابات والإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية في ليبيا، بالإضافة إلى إنشاء مؤسسات أمنية قابلة للحياة وخاضعة للمساءلة، كما يسعى لرسم خريطة طريق سياسية نحو الحل الذي ترعاه الأمم المتحدة من خلال مناقشة آليات إدارة الفترة الانتقالية ما بعد المؤتمر وحتى موعد إجراء الانتخابات العامة في البلاد.
ويرى مراقبون أن مؤتمر باليرمو، وإن لم يكن الأول من نوعه لبحث الأزمة الليبية حيث سبقه العديد من المؤتمرات المماثلة والتي لم تخرج بنتائج ملموسة لإنهاء الأزمة إلا أن هذا المؤتمر يبدو مختلفا عن المؤتمرات السابقة، سواء في الأعداد الجيد له أو حجم المشاركة في أعماله، أو الدعم والمساندة التي يحظى بها إقليميا ودوليا، ما قد يعزز فرص نجاحه في التوصل لنتائج مختلفة.
فقد سعت إيطاليا للاعداد الجيد للمؤتمر وحشد الدعم الدولي والاقليمي لضمان نجاحه، كما أنها سعت لضمان حضور وتمثيل مختلف القوى الليبية الفاعلة، وفي هذا الإطار أعلنت روما أنها تحظى بدعم دول كبرى لهذا المؤتمرعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا، التي تشارك فيه، فضلا عن ألمانيا والقوى الإقليمية المؤثرة في الشأن الليبي وعلى رأسها مصر.
كما سبق انعقاد المؤتمر سلسلة من المشاورات والاتصالات التي أجراها المسؤولون الإيطاليون لتنسيق المواقف مع الاطراف المعنية بشأن أجندة المؤتمر، ونجحت روما خلال الفترة الماضية في إقناع هذه الأطراف بضرورة تأجيل إجراء الانتخابات في ليبيا إلى العام المقبل والعمل على تهئية الأجواء السياسية والأمنية والقانونية اللازمة من خلال التوافق بين الأطراف الليبية على إقرار الدستور والقانون الانتخابي ،لضمان نجاح هذه الانتخابات.
ويرى مراقبون أن حضور كل الأطراف الليبية الفاعلة لهذا المؤتمر بما فيها المشير حفتر، إلى جانب مشاركة مختلف القوى والأطراف الدولية والإقليمية والدولية المؤثرة والمعنية بالملف، من شأنه أن يمنح مؤتمر باليرمو زخما كبيرا ويعزز فرص التوصل لتسوية للخلافات بين هذه الأطراف.
وفي هذا الإطار كان لافتا حرص الجانب الإيطالي على حضور المشير خليفة حفتر، والذي يرى محللون أنه أحد الشروط المهمة لضمان نجاح المؤتمر بالنظر إلى الأهمية الكبيرة لدور الجيش الليبي في أي تسوية سياسية قادمة، وقد بذلت الدبلوماسية الإيطالية خلال الأسابيع الماضية جهودا مكثفة لضمان حضور حفتر وتجاوز الخلافات بين الجانبين، فقد زاره في بنغازي وزير الخارجية الإيطالي “إينزو موافيرو ميلانيزي” ومسؤولون آخرون، ووجهت له دعوة رسمية لزيارة روما التقى خلالها رئيس الوزراء “جوسيبي كونتي” لبحث ترتيبات مؤتمر باليرمو.
وكانت العلاقات بين إيطاليا والجيش الليبي قد شهدت توترا ملحوظا نتيجة الموقف الإيطالي المساند لحكومة الوفاق الوطني في طرابلس، ورفض الجيش الليبي للتدخلات الإيطالية في الشؤون الداخلية لليبيا، إلا أن النجاحات الكبيرة التي حققها الجيش عقب سيطرته على منطقة الهلال النفطي ودحر الميليشيات المسلحة، ونجاحه في تحرير مدينة درنة بعد سنوات من المعاناة من سيطرة التنظيمات الإرهابية دفع الجانب الإيطالي لإعادة حساباته الخاصة بالمعادلة الليبية والعمل على كسب ود المشير حفتر وضمان مشاركته في مؤتمر باليرمو.
وتسعى إيطاليا من خلال استضافتها لهذا المؤتمر الدولي والعمل على نجاحه لتأكيد دورها على الساحة الليبية في مواجهة منافسين دوليين آخرين على رأسهم فرنسا التي استضافت مؤتمرا مماثلا حول ليبيا في قبل نحو ستة أشهر وجمعت خلاله كلا من السراج وخليفة حفتر، الأمر الذي يرى مراقبون أنه يعكس التنافس القائم بين إيطاليا وفرنسا على الساحة الليبية، فرغم وجود أهداف مشتركة تجمع بين باريس وروما في ليبيا وعلى رأسها مكافحة الهجرة غير الشرعية عبر الشواطىء الليبية والنفط ومكافحة خطر الإرهاب والجماعات المتشددة إلا أن ذلك لا ينفي وجود منافسة واتهامات متبادلة بين البلدين بمحاولة الانفراد بالحل وبالنفوذ في ليبيا.
وكانت باريس قد استضافت في 29 مايو الماضي اجتماعا حول الأزمة الليبية، شارك فيه كل المشير خليفة حفتر، وفايز السراج، وعقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، لبحث مسألة إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في البلاد، وتم خلال هذا الاجتماع الاتفاق على اجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، كان من المفترض أن تتم في 10 ديسمبر المقبل، وتعهدت هذه الأطراف بالالتزام بقبول نتائج الانتخابات إلا أن هذا الاتفاق اصطدم بمعارضة واسعة سواء داخل ليبيا وخارجها، حيث رأت أطراف عديدة أن ليبيا ليست جاهزة لإجراء انتخابات وأن الاستعجال في عقدها قبل تهئية الأجواء السياسية والأمنية لذلك، سيؤدي إلى مزيد من الانقسام وعدم الاستقرار في البلاد.
ويرى محللون أن نجاح مؤتمر باليرمو في التوصل إلى تسويات واقعية ومقبولة للأزمة الليبية من شأنه أن يعزز مكانة إيطاليا على الساحة الليبية، حيث تسعى روما، حسب المحللين، باستضافتها لهذا المؤتمر إلى احتلال موقع الصدارة في تسوية الملف الليبي، مدعومة بالمساندة الدولية والإقليمية لجهودها.
وتسعى روما من خلال تعزيز موقعها في العملية السياسية الليبية، لضمان مصالحها النفطية ولدعم جهودها في مكافحة الهجرة غيرالشرعية والسيطرة على المنافذ البرية والبحرية للمهاجرين الذين اصبحوا مصدر قلق دائم للسلطات الإيطالية، لكن كل هذه الطموحات الإيطالية على الساحة اللييية تبقى مرهونة بنجاح مؤتمر باليرمو في التوصل لتسوية توافقية تنهى حالة الانقسام والانسداد السياسي على الساحة الليبية، وهذا هو أحد أكبر التحديات التي تواجه المجتمعين في باليرمو، والذين يأملون في أن يخرج هذا المؤتمر بنتائج مختلفة عن مؤتمرات سابقة.
وفي هذا الصدد، يرى محللون أن نجاح المؤتمر في الخروج بنتائج مغايرة تنعش الآمال بحل قريب للازمة الليبية يتطلب توفر جملة من الشروط على رأسها الاحترام الكامل لتولي الليبيين المسؤولية في إدارة شؤونهم بدون تدخل خارجي، وضمان مشاركة مختلف مكونات المشهد السياسي الليبي بدون تهميش أو إقصاء، ودعم الإطار السياسي والدستوري كأساس لعملية سياسية منظمة استنادًا إلى خطة عمل الأمم المتحدة، وحسم الخلاف القائم حول وضعية قائد الجيش الوطني الليبي في التسوية السياسية المرتقبة، وانهاء مشكلة المليشيات المسلحة واستيعابها في مؤسسات الدولة الليبية وكلها شروط تبدو صعبة ومعقدة وتحطمت على صخورها العديد من المؤتمرات السابقة، فهل ينجو مؤتمر باليرمو من نفس المصير؟.
المصدر: وكالة انباء الشرق الأوسط (أ ش أ)