تعمل الإدارة الأمريكية على تنفيذ مبدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التجاري والذي يقوم على تفضيل توقيع الاتفاقات الثنائية مع الدول بعيداً عن الجماعية ومتعددة الأطراف، إذ يعتمد تبني ترامب على فهمه للاقتصاد العالمي باعتباره صراعاً محصلته صفرا، خاسراً مقابل رابح، وانطلاقاً من ذلك، فإن السؤال الرئيسي في تقييم أي اتفاق تجاري ليس ما إذا كان يولد مكاسب اقتصادية شاملة، لكن كيف يجري توزيع المنافع بين البلدان، ومن يحصل على النصيب الأكبر.
وتكشف المفاوضات التجارية الأمريكية الأوروبية والتي تشهدها واشنطن غداً الأربعاء حيث تلتقي المفوضة الأوروبية للتجارة سيسيليا مالمستروم، الممثل الأمريكي للتجارة روبرت لايتهايزر لإجراء محادثات جديدة حول التجارة، عن محورية الملف التجاري في فكر إدارة ترامب الأمريكية، وأنها ترى العلاقات بين الدول بمنظور المكسب والخسارة، وتؤكد على تعهد ترامب بإعادة التفاوض على كل واحدة من اتفاقيات التجارة، وفقاً للمبادئ الواردة في مبدأ ترامب التجاري، أي أن أي اتفاق لابد أن يزيد معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، ويخفض العجز التجاري، ويعزز القاعدة الصناعية الأمريكية.
ومنذ أشهر تسعى واشنطن وبروكسل إلى اتفاق يتوج مبدأ التفاهم التجاري الذي أعلنه نهاية يوليو الماضي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، وكان المسؤولان الأمريكي والأوروبي قد تعهدا “العمل معاً لإلغاء الرسوم الجمركية والحواجز غير الجمركية والمساعدات على السلع الصناعية”، لكنهما استثنيا قطاع صناعة السيارات.
وفي اتجاه آخر، تضع القمة السنوية التي تشهدها سنغافورة الأسبوع الجاري، النفوذ الاقتصادي الأمريكي في منطقة آسيا محل اختبار صعب، وتقلل من فرص تواجدها بشكل فعال في ظل غياب ترامب عن حضور هذه القمة، وما يترتب عليها من توقيع اتفاقيات
الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية.
وفي إطار حربها التجارية مع الصين، سيضغط قادة العالم خلال هذه القمة لاستكمال اتفاق “الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية”، يضم الاتفاق جميع أعضاء آسيان العشرة إضافة إلى الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا، والذي تدعمه الصين ويستثني الولايات المتحدة، كرد على تنامي الحمائية وأجندة الرئيس ترامب الذي يتخذ من “أمريكا أولاً” شعاراً.
ولم تكتف الولايات المتحدة بالتغيب عن الاتفاق فحسب، إذ تخلى ترامب عن حضور القمة برمتها في سنغافورة، مؤكداً بذلك إصراره على التملص من جهود ترسيخ قواعد التجارة العالمية، ومثيراً المزيد من الأسئلة بشأن التزام واشنطن حيال آسيا.
فبعد وقت قصير من وصوله إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، مارس ترامب سياسة تجارية أحادية الجانب، فانسحب من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، الذي قاد سلفه باراك أوباما المفاوضات لإبرامه في مسعى لربط القوى الآسيوية التي تنمو بوتيرة سريعة بنظام تدعمه واشنطن لمواجهة الصين.
ووفقاً لمحللين اقتصاديين، فإن هذا النهج الترامبي جاء بتداعيات سلبية، فقد ترك المجال مفتوحاً لبكين لتروج لاتفاق منافس تفضله وهو “الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية”، وهو اتفاق تجارة حرة يهدف إلى خفض الرسوم الجمركية ودمج الأسواق، ولكن الاتفاق الذي تنضوي فيه 16 دولة يمنح واشنطن حماية أضعف في مجالات بينها التوظيف والبيئة، واستمر الاتفاق الذي دافع عنه أوباما حتى من دون الولايات المتحدة حيث سيدخل حيز التنفيذ هذا العام.
تأتي القمة التي سيحضرها 20 من قادة العالم على وقع نزاع تجاري صيني – أمريكي اندلع منذ أشهر بعدما فرض ترامب رسوماً جمركية على معظم الواردات الصينية، بينما ردت بكين بفرض رسوم مماثلة.
ويعد غياب ترامب عن قمة سنغافورة واجتماع قادة العالم الذي يعقبها في بابوا غينيا الجديدة مثار اهتمام خبراء الاقتصاد العالمي، نظراً إلى أن أوباما الذي أطلق مبادرة “الميل نحو آسيا” لتوجيه مزيد من الموارد الاقتصادية والعسكرية الأمريكية للمنطقة، كان مشاركاً دائماً فيها، لكن واشنطن تصر على أنها لا تزال ملتزمة حيال آسيا.
وعلى رغم ما ذهبت إليه بعض التحليلات الغربية عن جملة من التحديدات التي تهدد وتيرة صعود الصين، وتحد من قدرتها على القيام بالدور الذي انفردت به الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة، إلا أن هذا الصعود حتى وإن تعرض لبعض الأزمات يُشكل تحديا للقوة والنفوذ الأمريكي عالميًا، خاصة في منطقة آسيا – الباسفيك التي كانت منطقة نفوذ أمريكي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية غير قابل للتحدي، ومدعومة بنظام تحالف قوي لا مثيل له.
فقد باتت الصين أكثر انفتاحا في علاقاتها السياسية والاقتصادية مع كثير من مناطق العالم، وفي مقدمتها منطقة آسيا والباسفيك، ولذا تبدي الصين اهتماما خاصا بتوسيع نطاق التعاون الأمني والعسكري مع كافة دول المنطقة ليس لتأمين مصالحها الاقتصادية بها فقط وإنما لتحجيم امتداد التنظيمات الإرهابية في المنطقة وآسيا أيضا.
ورغم حرص الصين على الترويج لدورها باعتبارها فاعلاً تنمويا وليس جيوسياسيا، إلا أن رغبتها في الحفاظ على مصالحها الاقتصادية في المستقبل سوف تدفعها تدريجيا للتخلي عن دورها السياسي المتحفظ في كثير من الملفات الإقليمية والدولية، من أجل التأثير على مجريات الأوضاع السياسية في الدول التي ترتبط معها بمصالح اقتصادية، وهو ما سيجعلها تدخل في تنافس مع بعض القوى الكبرى على النفوذ الدولي.
يبقى القول إن قمة سنغافورة سوف تمثل حلقة من حلقات الصراع التجاري بين الصين وأمريكا، وسوف تمثل النتائج المترتبة عليها اختبارا صعبا للمبدأ التجاري الأمريكي حول العالم، وتعمل على تقليص النفوذ الأمريكي في منطقة آسيا ـ الباسفيك، وربما يكون لنتائج انتخابات الكونجرس الأمريكي الأخيرة تأثيرات أخرى على النهج الترامبي في التوجهات الاقتصادية والسياسية الخارجية.
المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)