بقدر ما تشكل حرب السادس من أكتوبر معينا لاينضب حول العالم لتطوير العقائد العسكرية ومفاهيم القتال فإن الذكرى الخامسة والأربعين لهذه الحرب العادلة والمجيدة تعيد للأذهان انتصار العقل المصري المبدع وأصالة المخزون الحضاري لشعب عظيم.
وإذ تتوالى الوقائع الدالة على تفوق العقل الاستراتيجي المصري على مستويات الفكر والتخطيط وإدارة العمليات في حرب السادس من أكتوبر ويمضي الكتاب والمعلقون بالصحف ووسائل الإعلام في سرد المزيد من هذه الوقائع، فضلا عن ذكريات القادة والمقاتلين فإن الإجماع منعقد في الذكرى الخامسة والأربعين لهذه الحرب المجيدة على أن المقاتل المصري بشجاعته وإبداعه وتضحياته يبقى الإلهام والقدوة للأجيال في مسيرة الزمان.
ومازالت تشكل هذه الحرب بخبراتها التي أبدع فيها المقاتل المصري بأفكار غير تقليدية لاقتحام أكبر مانع مائي في التاريخ وتدمير خط بارليف الحصين زادا معرفيا لمراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية والأكاديميات والمعاهد العسكرية العريقة حول العالم لتطوير العقائد العسكرية ومفاهيم القتال ناهيك عن الخداع الاستراتيجي.
وفي كتابه “شاهد على الحرب والسلام” كشف أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية عن جوانب مهمة للإعداد لحرب السادس من أكتوبر حيث انتدب من وزارة الخارجية للعمل حينئذ في مستشارية الأمن القومي التي كان يقودها حافظ إسماعيل، موضحا أن المقاتل المصري في هذه الحرب المجيدة هو الذي أتاح للدبلوماسية المصرية تحقيق مكاسب استراتيجية وصولا لاستعادة ماكان قد تبقى من أرضنا المحتلة بعد حرب الخامس من يونيو 1967.
ويحمل هذا الكتاب شهادة مهمة من موقع قريب من صنع القرار تؤكد على أن الرئيس الراحل أنور السادات تمسك بقراره التاريخي وسط معطيات دولية معقدة بضرورة بدء هذه الحرب العادلة كضرورة لتحرير الأرض المصرية السليبة في سيناء، كما أنه رد على رسائل من الخارج تطالبه بوقف إطلاق النار يوم 9 أكتوبر 1973 بأن “مصر ستمضي في حربها حتى تحقق كامل أهدافها السياسية”.
وفي سياق الاحتفال بالذكرى الخامسة والأربعين لهذه الحرب المجيدة، قال الكاتب والأديب والبرلماني يوسف القعيد – في مقابلة تلفزيونية – إن “خطة الخداع الاستراتيجي والتمويه الكبرى” تضمنت تسريح بعض الجنود يوم 4 أكتوبر 1973 وكان هو من بينهم حينئذ، غير أنه سرعان ما جرى استدعاؤه مجددا مع زملائه بعد يومين عندما بدأت الحرب، كما قدم عدة أمثلة أخرى من هذه الخطة التي وصفها بأنها كانت “خطة مذهلة”.
ولعل من أهم إنجازات حرب الخداع التي تفوق فيها العقل المصري أثناء الإعداد لحرب تحرير الأرض السليبة “إسقاط التصور الذهني بأن الآخر يعرف كل أسرارنا وأدق خبايانا بل ويعرف عنا أكثر مما نعرفه عن أنفسنا ناهيك عن معرفته بنوايانا وهو تصور صنع باتقان ليشعرنا باليأس والعجز” .
ومهما قالت وسائط الحروب النفسية وأدوات الدعاية المضادة بشأن تفاصيل تتزامن مع الإعداد المصري الصبور لحرب السادس من أكتوبر وتسريبات بشأن موعد الحرب وتوقيت بدء العمليات العسكرية الشاملة فالثابت والمؤكد حتى في المراجع والوثائق الإسرائيلية أن العقل المصري نجح في تحقيق المفاجأة الاستراتيجية لتكون جسرا من أهم جسور العبور العظيم من الهزيمة إلى النصر.
ورغم كل المحاولات الإسرائيلية للبحث عن أي نصر شكلي يخفف من أثر الصدمة الاستراتيجية التي تعرضوا لها من العقل المصري المبدع فعلى مدى الأعوام التي مرت منذ حرب السادس من أكتوبر تحقق إجماع بين المفكرين الاستراتيجيين في العالم على أن خطة الدفاع الإسرائيلية فقدت اتزانها وأصيبت بالشلل أمام مفاجأة الهجوم المصري.
فقد نجح المصريون بأفكارهم المبدعة وغير التقليدية في تغيير توازنات القوى بالمنطقة فيما كان أحد عوامل المفاجأة للإسرائيليين ذلك التطور المعرفي والارتفاع الكبير في قدرات ومهارات الجندي المصري القادم من الجامعة ليقدم أرقى مستويات الأداء القتالي بروح تتوثب للنصر.
ولعل ماحققه العقل المصري المبدع في حرب نحتفل اليوم بذكراها ال45 يجد معادله الإبداعي أعمالا أدبية أو درامية رفيعة المستوى تليق بهذا الحدث الخالد في الوجدان المصري، كما أن عمليات الخداع الاستراتيجي التي أبدع فيها المصريون أثناء الإعداد لهذه الحرب العادلة تمنح أقصى درجات التشويق لمثل تلك الأعمال الأدبية والدرامية التلفزيونية والسينمائية المأمولة.
وإذا كان أعداء مصر والمصريون قد سعوا عبر الإرهاب الأسود العميل لفرض التشاؤم واليأس على أوجه الحياة المصرية فإن
أمانيهم المريضة لن تتحقق أبدا لأن اليأس لم يكن أبدا ولن يكون خيارا للمصريين الذين قدموا ملحمة يحفظها التاريخ في فن الحرب العادلة مزجوا فيها بين روحهم الإيمانية وأدوات العلم والتقنية.
فأى قراءة متعمقة للتاريخ الثقافي للمصريين تكشف بوضوح عن هذه الحقيقة بل وعلى النقيض فإن المعدن الأصيل لهذا الشعب العظيم يتوهج وتتجلى ثقافة المقاومة بالتفاؤل والأمل في خضم أوقات التحديات الجسام كما حدث منذ 45 عاما عندما عبروا قناة السويس ليرفعوا أعلام مصر في سيناء الحبيبة.
وإذا كانت الاستراتيجيات إملاء جغرافيا وقد تتغير السياسات المعبرة عنها لتتلاءم مع متغيرات الظروف فإن العقل المصري المبدع في تعامله مع الثوابت والمتغيرات يمضي في ملحمة وطنية جديدة للتنمية الشاملة في سيناء.
أنه “صراع كفاحى مصري جديد” من أجل التقدم على قاعدة العلم والتخطيط الرشيد وبروح السادس من أكتوبر وهو جدير بأن يفتح عصرا جديدا مجيدا وعالما جديدا شجاعا فى سيناء التي تشكل بامتياز أمثولة لجغرافيا الشهداء في أقدم وأعرق دولة فى الجغرافيا السياسية للعالم.
وفي الذكرى الخامسة والأربعين لحرب السادس من أكتوبر فإن تلك الحرب بحضورها الراسخ في الوجدان المصري إنما تعبر عن ثقافة بمكوناتها الجوهرية من مبادرة وابتكار وإبداع وإتقان وتضحية وفداء وإيمان وفهم عميق لمعنى التراب الوطني وقيمة الأرض.
المجد والخلود لشهداء مصر الأبرار دفاعا عن الأرض والعرض والكرامة..ونهتف من أعماق القلب فى الذكرى الخامسة والأربعين لحرب التحرير بصيحة هتف بها ذات يوم مثقف مصرى كبير هو الراحل لويس عوض معبرا عن الضمير الوطنى فى الطريق إلى حرب رمضان: “سيناء..سيناء..سيناء”..نعم أنها جغرافيا الشهداء وقلب التاريخ وطريق المستقبل بالعقل المصري المبدع.
المصدر: أ ش أ