خمسة و أربعون عاما يسطرها التاريخ على انتصار مصر فى حرب السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣ ، انتصارا كان من أعظم الانتصارات العسكرية في القرن الماضي، وميلادا جديدا وعلامة فارقة فى تاريخ مصر الكنانة والأمة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بأسرها ، فيه انقلبت النكسة إلى إنتصار عظيم ، ومع خطوات خير أجناد الأرض على تراب سيناء وعبورهم قناة السويس ، وتحطيمهم خط بارليف ، عبرت مصر الهزيمة للنصر وتحولت المحنة إلى منحة ، وبدأت مرحلة جديدة فى تاريخ الصراع العربى الاسرائيلى.
إنتصار مصر العظيم فى حرب أكتوبر جاء نتيجة حتمية لتضافر جهود كافة الأجهزة، وستظل مصر تحتفل بهذه المناسبة وتخلدها بالقاء الضوء على ملحمتها الوطنية، وتقدم للأحفاد والأجيال التي لم تعش تفاصيل هذا الانتصار قدوة تزكى روحهم الوطنية ، وتحدثهم عن تضحيات الأجداد من أجل إعلاء معنى العزة والكرامة ، وتحكى لهم سيرة جيل افتدى تراب أرض بلادهم بالدم، فتنشط الذاكرة للمعنى وراء النصر، وتحفز القدرة على التحدى والاتحاد ، وترسخ فى الأذهان أن الكل ماض والوطن باق.
أربعة عقود ونصف مرت على نصر أكتوبر، ومازالت في ذكراها حضور يتحدى الزمن، حيث تجدد هذه الذكرى التأكيد أن الجيش المصري هو رمانة الميزان لقوة الدولة، وأنه روح مصر على مدى الثورات العظيمة التي قام بها الشعب عبر تاريخه ، فلم تكن حرب أكتوبر حربا تقليدية اقتصرت نتائجها على محيطها الجغرافى ، لكنها تعدت الحدود لتخرج للفضاء الفسيح معلنة عظمة هذا الشعب وقواته المسلحة ، فلحظة العبور كانت القفزة الأولى في طريق بلا نهاية ، ونقطة النهاية لتحديات كثيرة ومتتابعة ظن الجميع أنها لن تزول ، وفيها برهن المصرى عزيمته وإصراره على النجاح رغم كل ما احتوته الأحداث من ضراوة وتحد ، وفيها أيضا أثبت المقاتل المصري أنه خير أجناد الأرض، وأنه قادر على استخدام الأسلحة المعقدة بنجاح كبير، وصك الشعب علامة جديدة في عراقته وسجل مجدا بتحطيم الجنود المصريين لخط بارليف المنيع .
ورغم مرور كل هذه الأعوام على نصر أكتوبر، إلا أن ما حققه فيها الجيش المصري مازال موضع تقدير وتدريس في الأكاديميات العسكرية العالمية، فتلك الحرب التي اتخذ قرارها الرئيس الراحل أنور السادات، جاءت تتويجا لحرب الاستنزاف التي نظمها وقادها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر منذ عام 1967 وحتى وفاته، ورغم ما سببته الهزيمة من حالة معنوية سيئة للمصريين إلا أنها عجزت عن كسر أحلامهم المشروعة على صخرة هزيمة يونيو 1967.
وكان قرار حرب أكتوبر النتيجة الطبيعية للطريق المسدود الذي وصلت إليه الجهود السياسية والدبلوماسية، فحالة “اللاسلم واللا حرب” تخدم الاحتلال الإسرائيلي وتستنزف طاقة المصريين البشرية والاقتصادية، واستكملت القوات المسلحة استعداداتها للعبور، ونجحت في تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وفي 6 ساعات اقتحمت قواتنا المسلحة أضخم مانع مائي بعد إقامة كباري العبور وفتح الثغرات في الساتر الترابي بمدافع المياه. تفاصيل النصر مشرفة ومؤرخة روى بعضها شهود عيان والبعض الآخر رواه قادة عسكريون وساسة فى مصر والخارج ، ورسمت الملحمة الوطنية التي سجلها الشعب المصري في تاريخه، بعد أن اعتنق مبدأ “ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”، وكان عنصر المفاجأة سيد الموقف، فتمكن الجيش المصري بعد العبور من الاستيلاء على الضفة الشرقية لقناة السويس خلال الأيام الأولى من الحرب، وذلك ضمن الخطة التي تمت بالتنسيق مع سوريا والتي أطلق عليها اسم “عملية بدر”، فأصبح القتال مع إسرائيل على جبهتين .
وتعرف حرب ٧٣ في سوريا “باسم حرب تشرين التحريرية”، فيما تعرف في إسرائيل باسم حرب “يوم الغفران أو يوم كيبور”، ومهما اختلف المسمى فقد حقق الجيشان المصري والسوري الأهداف الإستراتيجية المرجوة من المباغتة العسكرية لإسرائيل، وكانت هناك إنجازات ملموسة منذ اليوم الأول من الحرب، حيث توغلت القوات المصرية 20 كيلومترا شرق قناة السويس وتمكنت القوات السورية من الدخول في عمق هضبة الجولان.
جهود دبلوماسية تضافرت مع الجهود العسكرية فمهدت الطريق لمرحلة الإعداد للحرب ، والتحركات الدبلوماسية الموازية فى دهاليز السياسة الدولية وداخل أروقة الأمم المتحدة لحشد الدعم الدولى للمواقف المصرية والحقوق العربية، وبدأت التجهيزات لخطة العبور فى عام ٧١ “أى قبل المعركة الفعلية بعامين ” ، بوضع خطة الخداع الاستراتيجى الشاملة التى اشتركت فيها كل أجهزة الدولة.
وقبل كل هذا ، كان هناك الرئيس الراحل أنور السادات المعجزة العسكرية الفذة والقيادة السياسية المحكنة التى امتلكت خبرة قراءة الموقف المحيط ، ومواقف كافة الأطراف الأخرى بكل دقة ، فبعدما تيقن ضياع الأمل فى الحل السلمى ، بات تركيزه على التخطيط للمعركة التى اصبحت أمرا حتميا، فقاد كافة مراحل الإعداد والتنفيذ لخطة المعركة فى سرية تامة ، وكان عام الحسم مدرجا فى خطة الخداع الاستراتيجى ، ومعطيات أخرى أدت جميعها إلى نجاحه فى خداع العدو الاسرائيلى .
وذاقت مصر طعم الفرحة بعد سنوات عجاف من النكسة، وعزف الجيش والشعب سيمفونية وطنية تدرس حتى الآن ، مقدماتها كان قرار الرئيس جمال عبد الناصر بإعادة تأهيل الجيش في أسرع وقت وبدء حرب الاستنزاف التي كبدت العدو خسائر فادحة ، ثم جاء الرئيس أنور السادات ليتخذ قرار الحرب معتمدا على خطة الخداع الاستراتيجي ، وصمود الجنود وتنفيذهم الخطة ببراعة وسرعة تدرس في أكبر الأكاديميات العسكرية، مما أرجع للوطن وللمصريين كرامتهم وأرضهم .
لم تكن حرب أكتوبر مجرد معركة عسكرية استطاعت فيها مصر أن تحقق انتصارا عسكريا على إسرائيل بل كانت اختبارا تاريخيا حاسما لقدرة الشعب المصري على أن يحول حلم التحرير وإزالة آثار العدوان إلى حقيقة.
تلك الحرب التى تحملت فيها القوات المسلحة المسئولية الأولى ، وعبء المواجهة الحاسمة ، فحققت إنجازا هائلا غير مسبوق، إلا أن الشعب المصرى بمختلف فئاته كان البطل الأول فيها وفى تحقيق هذا النصر ، حتى أن تلك الحرب المجيدة يطلق عليها حرب الشعب المصرى كله ، حيث لا توجد أسرة مصرية لم تقدم شهيدا أو مصابا أو مقاتلا فى تلك الحرب. ولأن الرئيس الراحل أنور السادات كان بطل الحرب والسلام ، فقد انتقلت الدبلوماسية المصرية بعد انتصارات حرب أكتوبر من مرحلة مواجهة الهزيمة وآثارها إلى مرحلة تسويق النصر والبناء عليه ، واستخدام أسلحة التفاوض الدبلوماسى لتحقيق السلام فى منطقة الشرق الأوسط ، وبدأت عملية السلام بوساطة امريكية وتكريس النشاط الدبلوماسى على اعتبار أن حرب أكتوبر هى آخر الحروب ، وبتوقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل فى ٢٦ مارس عام ١٩٧٩ استردت مصر كامل سيادتها على سيناء وقناة السويس فى ٢٥ إبريل عام ١٩٨٢ ، باستثناء طابا التى عادت لمصر فى عام ١٩٨٩ عن طريق التحكيم الدولي بعد معركة دبلوماسية شرسة .
ومن أهم نتائج حرب أكتوبر استرداد السيادة الكاملة على قناة السويس واسترداد جميع الأراضي في شبه جزيرة سيناء، واسترداد جزء من مرتفعات الجولان السورية، وتحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وعودة الملاحة في قناة السويس، ووضوح تأثير التضامن السياسي العربي، بالإضافة إلى ما أحدثته الحرب من تغيرات عميقة في كثير من المجالات على الصعيد المحلي لدول الحرب وعلى الصعيد الإقليمي للمنطقة العربية، وانعكاساتها على العلاقات الدولية بين دول المنطقة والعالم الخارجي خاصة الدول العظمى.
واليوم يستلم جنود وشعب مصر من انتصار حرب أكتوبر عام ٧٣ القدرة على التنمية فى سيناء تحت شعار “يد تبنى ويد تحمل السلاح “، وبالتزامن مع العمليات العسكرية التى تقوم بها القوات المسلحة لدحر الإرهاب فى سيناء ، وبالتوازي معها تأتى مشروعات التنمية كأحد المشروعات القومية التى تتبناها الدولة عقب ثورة ٣٠ يونيو ، حيث تحظى التنمية فى سيناء بعناية كبيرة من القيادة السياسية. المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط ( أ ش أ )