“قرار رئيس الجمهورية، تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، شركة مساهمة مصرية، وينتقل إلى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات”، لاتزال تلك الكلمات، التي أطلقها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في خطابه الشهير في ميدان المنشية بالإسكندرية في 26 يوليو 1956 أثناء احتفاله بالذكرى الرابعة لثورة يوليو، عالقة ومحفورة في أذهان الملايين من المصريين، رغم مرور ما يقرب من 62 عاما على ذلك القرار التاريخي، الذي يحل ذكراه اليوم، والذي كان بمثابة مرحلة فاصلة في التاريخ المصري.
لم يكن إعلان عبدالناصر، تأميم القناة، بمثابة خطوة فقط نحو استعادة السيادة المصرية وكسر شوكة المستعمر الأجنبي وإنهاء احتكار امتياز القناة والسيطرة على مواردها منذ اتمام حفر القناة عام 1869، ولكن كان بمثابة رسالة إلى العالم برمته على قدرة الدولة المصرية على فرض سطوتها وسيادتها على كل مقدرات ومقاليد الأمور دون أي تدخل خارجي من أي دولة أخرى.
القرار المفاجئ، الذي أحدث ضجة في الأوساط العالمية في هذا التوقيت، جاء ردا على قرار البنك الدولي والولايات المتحدة وبريطانيا بسحب تمويلهم لبناء السد العالي، والذي علم به جمال عبد الناصر يوم الخميس 19 يوليو 1956م، على الرغم من المباحثات التي جرت بين مصر والبنك الدولي للانشاء والتعمير في أواخر عام 1955 وأوائل عام 1956، والتي تم حينها الاتفاق المبدئى على عقد قرض لمصر بمبلغ 200 مليون دولار تسحب منه عند الحاجة لإنشاء السد العالي، كما أبدت حكومتا الولايات المتحدة وبريطانيا استعدادهما لتقديم دعم مقداره 70 مليون دولار للمساهمة فى تنفيذ المرحلة الأولى للمشروع ، ولكن حدث أن أعلنت حكومة الولايات المتحدة فى 19 يوليو عام 1956 سحب عرضها السابق فى تمويل السد العالى، وأصدرت فى هذا الصدد بيانا بالأسباب التى دفعتها إلى هذا القرار، وهو ما جعل عبدالناصر يتخذ قراره بتأميم قناة السويس.
لم يكن قرار تأميم القناة عشوائيا، ولكن تم التخطيط له بشكل سري ويحمل طابع المفاجأة، وبدأت خطة التنفيذ، بإستدعاء الرئيس الراحل جمال عبدالناصر للمهندس محمود يونس، رئيس الهيئة العامة للبترول، فى ذلك الوقت، فى يوم 24 يوليو 1956، إلى مقر مجلس الوزراء وأبلغه بعزمه على تأميم قناة السويس، وأنه سيصدر قرارا بذلك مساء يوم 26 يوليو 1956 أثناء خطبته فى الإسكندرية، وكلفه بتنفيذ هذه المهمة، وفى اللقاء نفسه استدعى الرئيس جمال عبد الناصر المهندس عبد الحميد أبو بكر سكرتير عام الهيئة العامة للبترول فى ذلك الوقت، وأبلغه بأنه قرر تأميم قناة السويس، وأنه مكلف مع المهندس محمود يونس بالتنفيذ، وأن كلمة السر هى (ديلسيبس) التى سيذكرها فى خطبته فى المنشية وطلب المهندس محمود يونس من الرئيس جمال عبد الناصر أن ينضم إليهما المهندس محمد عزت عادل ، السكرتير المساعد للهيئة المصرية العامة للبترول فى ذلك الوقت، فوافق الرئيس على هذا الطلب ، وعهد إلى محمود يونس بالبدء فوراً فى مهمة اختيار المجموعة التى ستتولى تنفيذ المهمة تحت قيادته ، على أن يكون الاختيار من بين الأفراد الموثوق فيهم ، ومن ذوى الخبرة والكفاءة ، وكلفه أيضاً بإعداد خطة عملية لتنفيذ التأميم والمحافظة على السرية التامة .
وتم تجميع أعضاء مجموعة التأميم، وهم ثمانية من القوات المسلحة، وأحد عشر من قطاع البترول ، وواحد من الشرطة، واثنان من الفنيين، وأربعة من وزراء التجارة الذين كانوا ضباطا جامعيين، فى الثانية عشر ظهر يوم 26 يوليو 1956، فى مقر القيادة العامة للقوات المسلحة ولم يفصح لهم عن المهمة الحقيقية المكلفين بها، وكانت التعليمات الأولية لهم أن المجموعة مكلفة بمأمورية سرية جدا فى الصحراء الغربية.
والتقى فريق التأميم فى الساعة الثانية والنصف ظهراً يوم 26 يوليو، ومعهم كل من المهندسين محمود يونس، وعبد الحميد أبو بكر ومحمد عزت عادل، وأقلت المجموعة ست سيارات، وبدأت السيارات مغادرة مقر القيادة اعتبارا من الساعة الثالثة بعد الظهر على فترات متفاوتة، وعند وصولهم إلى معسكر الجلاء بالإسماعيلية انضم إليهم بعض كبار المسئولين بمحافظات القناة وسيناء، وأبلغهم المهندس محمود يونس أن المهمة المكلفين بها هى تأميم قناة السويس.
وقسم فريق التأميم إلى ثلاث مجموعات تنفيذية، تتولى المجموعة الأولى السيطرة على الإدارة الرئيسية للقناة بالإسماعيلية ، والمجموعة الثانية إدارة فرع بورسعيد ، والمجموعة الثالثة إدارة فرع السويس، أما مكتب القاهرة فقد كلفت به مجموعة تُركت فى القاهرة، وكُلف سلاح الإشارة بالإشراف على محطات الإرشاد على طول القناة ، وكان عددها إحدى عشرة محطة وإداراتها، وعندما سُمعت كلمة السر (ديلسيبس) فى خطاب الرئيس عبدالناصر بدأ تحرك المجموعات ، ونفذت كل مجموعة ما عهد إليها من تعليمات ، بمعاونة المحافظين ورجال الأمن والقوات المسلحة، وتم الاستيلاء على مبنى القناة بالإسماعيلية خلال ربع ساعة فقط.
ويقول المهندس عبد الحميد أبو بكر، في مذكراته في هذا السياق،”إن جمال عبد الناصر اتخذ القرار الخطير بتأميم القناة، حيث خشى أن تفلت كلمة السر من أسماع القائمين على تنفيذ خطة تأميم القناة، فأخذ يكرر كلمة “ديليسبس” أكثر من سبعة مرات ليتأكد أنهم تلقوا الإشارة المتفق عليها، حتى بدأ الناس يتساءلون عن سبب إضفائه كل هذه الأهمية على ديليسبس”.
ردود أفعال واسعة وتحركات دولية صاحبت القرار بمجرد الإعلان عنه، حيث اعتبرته مصر والبلدان العربية بمثابة انتصار للدولة المصرية على قوى الاستعمار الخارجي وكبح جماح تلك الدول في التدخل في شئون مصر الداخلية، بينما انفجرت براكين الغضب داخل الدول الاستعمارية الأجنبية، وقامت هيئة المنتفعين بقناة السويس بسحب المرشدين الأجانب بالقناة لإثبات أن مصر غير قادرة على إدارة القناة بمفردها، إلا أن مصر أثبتت عكس ذلك واستطاعت تشغيل القناة بإدارة مصرية كان على رأسها مهندس عملية التأميم محمود يونس بمرافقة زميليه عبد الحميد أبو بكر ومحمد عزت عادل، كما قامت كل من فرنسا وإنجلترا بتجميد الأموال المصرية في بلادهما.
وتصاعدت الأحداث مع إعلان بريطانيا وفرنسا بمشاركة إسرائيل الحرب على مصر ضمن العدوان الثلاثي، والذي انتهى بانسحابهم تحت ضغوط دولية ومقاومة شعبية من أهالي مدينة بورسعيد الباسلة، ونجحت مصر فى كسب تعاطف دولي كبير بعد المعركة الكبيرة التي خاضتها حفاظا على كرامتها، وتجلي ذلك التعاطف بصورة واضحة في القرار الذي صدر بأغلبية ساحقة 64 دولة من 76، في اجتماع هيئة الأمم المتحدة فى 2 نوفمبر فى دورة استثنائية، والقرار الذي اتخذته بوقف إطلاق النار فوراً، وانسحاب القوات الأجنبية من الأراضى المصرية، وانسحاب القوات المصرية الإسرائيلية إلى ما وراء خطوط الهدنة.
والمتعارف عليه أنه قبل تأميم القناة، كانت قناة السويس تخضع لسيطرة الشركة الأجنبية، التي ظلت تحتكر امتياز القناة والسيطرة على مواردها منذ إتمام حفر القناة عام 1869، بينما مصر صاحبة القناة الفعلية والشرعية لم يكن لها دور يذكر فى الإدارة ولم تحصل إلا على مبالغ ضئيلة من إيرادات القناة التى بلغت 34 مليوناً من الجنيهات الإسترلينية عام 1955، وكانت حصة مصر مليوناً واحداً .
وتاريخيا بدأت فكرة إنشاء القناة عام 1798 مع قدوم الحملة الفرنسية على مصر، ففكر نابليون في شق القناة إلا أن تلك الخطوة لم تكلل بالنجاح، وفي عام 1854 استطاع ديلسبس إقناع محمد سعيد باشا بالمشروع وحصل على موافقة الباب العالي، فقام بموجبه بمنح الشركة الفرنسية برئاسة ديلسبس امتياز حفر وتشغيل القناة لمدة 99 عاما، استغرق بناء القناة 10 سنوات (1859 – 1869) وساهم في عملية الحفر ما يقرب من مليون عامل مصري، وتم افتتاح القناة عام 1869 في حفل مهيب وبميزانية ضخمة، وفي عام 1905 حاولت الشركة الفرنسية تمديد حق الامتياز 50 عاماً إضافية إلا أن تلك المحاولة لم تنجح مساعيها.
وتسببت حرب 1967 في إغلاق قناة السويس- والتي تعد أحد أهم الممرات المائية في العالم- لأكثر من 8 سنوات،حتى قام الرئيس السادات بإعادة افتتاحها في يونيو 1975، بعد فض الاشتباك بين مصر وإسرائيل ووقف إطلاق النار ضمن أحداث حرب أكتوبر.
المصدر: وكالات