ستظل ثورة 23 يوليو التى تمر ذكراها السادسة والستين اليوم (الإثنين) حدثا ضخما فى حياة المصريين والشعوب المحبة للحرية، وواحدة من أهم الثورات فى التاريخ الحديث، لما مثلته من نقطة تحول جوهرية فى تاريخ مصر، وما عبرت عنه من إرادة شعب وانتصار أمة، وبما أحدثته من آثار إيجابية غيرت وجه الحياة فى مصر، وما ألهمته من إنطلاق للعديد من الثورات وحركات التحرر الإقليمية، وعلى امتداد العالم الثالث فى آسيا وأمريكا اللاتينية والتى طاقت شعوبها لنسائم الحرية.
ثورة غيرت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية تغييرا جذريا ، فكانت لصالح الأغلبية العددية من المصريين، وأعادت الروح “لملح الأرض” أولئك الذين لا يبدون فى صدارة المشهد ولا فى بؤرته ، لكنهم يذوبون عشقا فى تراب بلادهم ، إنهم ملايين المصريين الذين وقفوا بجانب الثورة وساندوها ، فهى ثورة العصر الذهبى للطبقة العاملة المطحونة التى عانت من الظلم والحرمان من العدالة الاجتماعية.
وظلت الثورة على مدى ٦٦ عاما ذات جذوة مشتعلة ، أمجادها لا يستحيل طمسها أو إخفاء معالمها ، فمازالت حتى يومنا هذا تقف بوهجها الناصرى شامخة مرفوعة الرأس ، فقد رسمت ملامح الحياة علي وجه الوطن العربي لتبشر بانتهاء حكم المستعمر، واستطاعت التأثير بقوة في المسارات السياسية والاقتصادية والإجتماعية محليا وإقليميا ودوليا ، فباتت أم كل الثورات العربية التي خرجت من رحمها، وساندت الشعب الليبي في ثورته ضد الاحتلال، ودعمت حركة التحرر في تونس والمغرب حتى الاستقلال، ودافعت عن حق الصومال في تقرير مصيره، وساهمت في استقلال الكويت، وقامت بدعم الثورة العراقية والسورية ، وساندت الشعوب في محاربة الاستعمار بكافة أشكاله وصوره في أفريقيا وآسيا .
إرهاصات الثورة ودلائلها الاجتماعية والسياسية كانت لا تخفي على أحد، فقد تضمنت التقارير البريطانية على مدى الأعوام من عام ١٩٤٥ إلى عام ١٩٥٠ مرور مصر بحالة من الغليان ، وكانت تتحدث دائما عن وجود حالة سخط وتذمر داخل صفوف الجيش ، ولم تأخذ القيادة البريطانية هذه التقارير مأخذ الجد ، فحفلت تلك الفترة بالإضافة إلى سنوات ٣ أخرى بأحداث عنف واضطرابات إجتماعية ، عززها عودة الوفد إلى الحكم ، ثم حريق القاهرة في يناير عام 1952.
وفى 20 يوليو عام ١٩٥٣ أرسلت السفارة البريطانية في القاهرة تقريرا وصفته “بالسرى للغاية” لوزارة الخارجية البريطانية في لندن تناولت فيه بعض الشائعات “غير المؤكدة “، حول تحرك عدد من وحدات الجيش في اتجاه الإسكندرية ، وما يقال حول رفض عدد من ضباط الجيش المصريين إطاعة الأوامر ، وتطرق التقرير إلى احتمال قيام تمرد عسكرى ، وكانت هذه هى المرة الأولى التى يشار فيها إلى مثل هذا الاحتمال ، وما سيؤدي إليه من فوضى لا محالة ، ثم توالت التقارير بعد ذلك حتى فجر يوم 23 يوليو.
ومع إنطلاق الثورة نجح تنظيم “الضباط الأحرار” فى السيطرة على الأمور والمرافق الحيوية فى البلاد ، وحدد البيان الأول الذى أذاعه الرئيس الراحل أنور السادات عضو التنظيم فى ذلك الوقت أسباب قيامها ، حيث جاء فيه ” إجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم ، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش ، وتسبب المرتشون والمغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين ، وأما فترة ما بعد الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد ، وتآمر الخونة على الجيش ، وتولى أمره إما جاهل أو فاسد حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها ، وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا ، وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفى خُلقهم وفى وطنيتهم ، ولا بد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج ، والترحيب”
ودعا البيان الملك فاروق إلى التنازل عن العرش لولى عهده الأمير أحمد فؤاد ، على أن تكون إدارة أمور البلاد فى يد مجلس قيادة الثورة المشكل من 13 ضابطا “هم قيادة تنظيم الضباط الاحرار” ، وغادر الملك فاروق مصر يوم 26 يوليو 1952 ، وألغيت الملكية وأعلنت الجمهورية في عام ١٩٥٤ ، واكتسبت ثورة يوليو تأييدا شعبيا جارفا من ملايين الفلاحين وطبقات الشعب العاملة الذين كانوا يعيشون حياة تتسم بالمرارة والمعاناة.
وقامت ثورة ٢٣ يوليو على مبادئ ستة مثلت عماد سياستها ، وهى القضاء على الاقطاع ، والقضاء على الاستعمار ، القضاء على سيطرة راس المال ، و بناء حياة ديمقراطية سليمة ، و بناء جيش وطنى ، وإقامة عدالة إجتماعية ، وكان من أهم قرارات مجلس قيادة الثورة على التوالى ، إعلان الدستور المؤقت فى ١٠ فبراير عام ١٩٥٣ ، والغاء النظام الملكى وإعلان الجمهورية فى ١٨ يونيو عام ١٩٥٣ ، وإعادة تشكيل لجنة مصادرة اموال وممتلكات أسرة محمد على فى ٨ نوفمبر عام ١٩٥٣ ، وحل جماعة الإخوان المسلمين فى ١٤ يناير عام ١٩٥٤.
تميزت ثورة ٢٣ يوليو التى عرفت فى بدايتها بالحركة المباركة ، بأنها ثورة بيضاء لم ترق فيها الدماء ، وبأن من قام بها جيل من الضباط والشبان ، حيث كان تشكيل الضباط الاحرار ذا طبيعة خاصة لا تنفرد باتجاه معين ولا تنتمي لحزب سياسي واحد ، فقد كان أعضاء التنظيم يمثلون مختلف الاتجاهات السياسية ، كما تميزت بالمرونة وعدم الجمود في سياستها الداخلية لصالح الدولة ، واتجاهها نحو تنفيذ المشروعات القومية.
وكشفت عن توجهها الاجتماعى وحسها الشعبى مبكرا عندما أصدرت قانون الملكية يوم 9 سبتمبر 1952 ، فقضت على الاقطاع وانزلت الملكيات الزراعية من عرشها ، وحررت الفلاح باصدار قانون الاصلاح الزراعى ، وأممت التجارة والصناعة التي استاثر بها الاجانب ، وألغت الطبقات بين الشعب المصري ، وأصبح الفقراء قضاة واساتذة جامعة وسفراء ووزراء واطباء ومحامين وتغيرت البنية الاجتماعية للمجتمع المصرى ، وقضت على معاملة العمال كسلع تباع وتشترى ويخضع ثمنها للمضاربة في سوق العمل ، وقضت على السيطرة الراسمالية في مجالات الانتاج الزراعي والصناعي.
ومن الانجازات السياسية المحلية لثورة ٢٣ يوليو تأميم قناة السويس ، استرداد الكرامة والاستقلال والحرية المفقودة على ايدي المستعمر المعتدي ، السيطرة على الحكم في مصر ، وإجبار الملك على التنازل عن العرش والرحيل عن مصر ، والغاء النظام الملكي وقيام الجمهورية ، وتوقيع “اتفاقية الجلاء” بعد اكثر من سبعين عاما من الاحتلال ، وبناء حركة قومية عربية للعمل على تحرير فلسطين.
فيما تضمنت الانجازات الثقافية ، انشاء الهيئة العامة لقصور الثقافة وانشاء وقصور الثقافة ، والمراكز الثقافية لتحقيق توزيع ديموقراطي عادل للثقافة ، وتعويض مناطق طال حرمانها من ثمرات الابداع الذي احتكرته مدينة القاهرة ، وانشاء أكاديمية تضم المعاهد العليا للمسرح والسينما والنقد والباليه والأوبرا والموسيقى والفنون الشعبية، ورعاية الاثار والمتاحف ودعم المؤسسات الثقافية التي انشاها النظام السابق ثقافى ، وسمحت الثورة بانتاج افلام من قصص الادب المصري الاصيل بعد ان كانت تعتمد على الاقتباس من القصص والأفلام الأجنبية.
وشملت الانجازات التعليمية ، مجانية التعليم العام والتعليم الجامعى ، وضاعفت من ميزانية التعليم العالى ، وأضافت عشر جامعات انشئت في جميع انحاء البلاد بدلا من ثلاث جامعات فقط ، وانشأت مراكز البحث العلمى وطورت المستشفيات التعليمية.
ومن الانجازات العربية لثورة يوليو ، توحيد الجهود العربية وحشد الطاقات العربية لصالح حركات التحرر العربية ، حيث أكدت للأمة العربية من الخليج الى المحيط أن قوة العرب في وحدتهم ، يجمعهم تاريخ واحد ولغة مشتركة ووجدان واحد، وكانت تجربة الوحدة العربية بين مصر وسوريا في فبراير 1958 نموذجا للكيان المنشود .
ولعبت قيادة الثورة دورا رائدا مع يوغسلافيا بقيادة الزعيم تيتو ، ومع الهند بقيادة نهرو في تشكيل حركة عدم الانحياز مما جعل لها وزنا ودورا ملموسا ومؤثرا على المستوى العالمي ، ووقعت صفقة الاسلحة الشرقية فى عام 1955 والتي اعتبرت نقطة تحول كسرت احتكار السلاح العالمى ، ودعت الى عقد أول مؤتمر لتضامن الشعوب الافريقية والاسيوية في القاهرة عام ١٩٥٨.
إنه قدر مصر أن تكون قطب القوة في العالم العربي ، الأمر الذى فرض عليها مسئولية الحماية والدفاع عن نفسها ومساندة الدول العربية الشقيقة .
المصدر : أ ش أ