دشنت المصالحة بين إثيوبيا وإرتيريا بداية مسار جديد للأمن والتنمية في القرن الأفريقي، بعد حرب دامية امتدت لسنتين (1998- 2000)، تلتها حرب أخرى باردة استمرت نحو عشرين عاماً، وأوجدت حالة من الرغبة في تحقيق الأمن والاستقرار في منطقة شرق إفريقيا عامة والقرن الأفريقي بصفة خاصة.
وكشف لقاء القمة بين الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي ورئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، في أسمرة في الثامن من يوليو 2018، عن توجه استراتيجي حقيقي في الفترة القادمة يمكن أن يسود هذه المنطقة، توجه جديد ونموذج يؤطر لعلاقات افريقية افريقية راسخة، يدفع نحو بناء الأوطان والشعوب بديلاً عن التوترات السياسية والصراعات المسلحة.
ووفقاً لخبراء الشأن الأفريقي، فإن هناك رغبة صادقة من البلدين للعمل معا على تشجيع تعاون وثيق في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والامنية، وبدء تشغيل خط الطيران وفتح الموانئ لكي يتمكن المواطنون من التنقل بين البلدين وإعادة فتح السفارات، وخرجت التصريحات الإيجابية من المسؤولين أبرزها ما قاله رئيس الوزراء الاثيوبي عن هدم الجدار وبناء جسر بالمحبة البلدين، وما أعلنه وزير الإعلام الإريتري عن بداية عصر جديد من السلام والصداقة.
وقال محللون إن المصالحة بين أديس أبابا وأسمرة إذا تم تنفيذ تفاصيلها بشكل كامل، وصمدت بمواجهة الأطراف المعارضة لها في الداخل ووكلائها في الخارج، ستدفع إلى تغيير نوعي في منطقة القرن الأفريقي التي تعيش منذ عقود على وقع صراعات عرقية تغذيها تدخلات خارجية متعددة.
خطوات وإرادة مهدت للمصالحة
خرجت هذه المصالحة الإريترية الأثيوبية من رحم المتغيرات الجيواستراتيجية التي تشهدها المنطقة، وتكالب الدول عليها لتحقيق مكاسب أمنية وسياسية واقتصادية، باعتبارها منطقة استراتيجية في تحقيق الأمن الإقليمي للكثير من الدول العربية والخليجية، وأن حماية الأمن القومي الخليجي والعربي تستلزم الالتفات لما يجري في القرن الأفريقي، لأن انعكاساته تتجاوز حدود المنطقة، وروافده يمكن أن تمتد إلى مناطق أبعد منها، وثمة خطوات قوية عربية وإقليمية ودولية غلفتها ومكنت لها إرادة الدولتين بقوة أسمرة وأديس أبابا.
وجاءت المصالحة نتيجة جهد إقليمي لعدد من الدول العربية لخلق المناخ الملائم لجعل منطقة القرن الأفريقي عنصر استقرار إضافي وعامل داعم لأمنها الإقليمي، ولذا كانت القاهرة والرياض وأبو ظبي مقصداً وساحات لاحتضان التشاور لمسؤولي البلدين، بهدف بناء علاقات متينة اقتصادياً وسياسياً وإنسانياً كأرضية ضرورية لتوسيع قاعدة الأصدقاء.
وجاءت الإرادة السياسية القوية من جانب كل من إثيوبيا وإريتريا مكملة ودافعة لتلك الجهود، فقد اعترفت أديس أبابا باتفاقية الجزائر للسلام لعام 2000، وأحقية أسمرة في إقليم بادمي المتنازع عليه، وهو ما أوجد أرضية قوية نحو السلام مع أسمرة.
كما مثلت رغبة رئيس الحكومة الإثيوبي الجديد في إخراج بلاده من العزلة، دافعاً قوياً للدول العربية المعنية للانفتاح على أديس أبابا ودعم خيارها في تنقية الأجواء مع أسمرة، حيث كشف آبي أحمد في أول خطاب له أمام البرلمان لنيل ثقته في 19 أبريل الماضي عن تبني منهج تصفير الأزمات، داخليا وخارجيا.
وهذا التوجه والتحول الجديد في السياسة الإثيوبية، وانتهاج سياسة الانفتاح على الآخر لبناء قوة الوطن من خلال الموانئ، أو ما يصفه المحللون بـ “استراتيجية الموانئ” بات يحتل أهمية كبيرة في المنظومة العالمية، باعتبارها أحد مرتكزات القوة الجديدة.
ولترجمة هذه التوجهات الإثيوبية الجديدة، زار رئيس الوزراء الإثيوبي كل من السودان للتفاهم على الاستفادة من ميناء بورتسودان، وتفاهم مع حكومة مقديشو، وحصل على 19% في ميناء بربرا، وزار جيبوتي التي تمر منها 90% من التجارة الإثيوبية وثمة خط بري يربط بين أديس أبابا وجيبوتي، هو جزء من شبكة إقليمية كبيرة، ستكون لها تداعيات مؤثرة على التعاون الإقليمي لأنها تضم غالبية دول شرق أفريقيا.
مردودات إيجابية :
ثمة عدة مردودات وانعكاسات إيجابية جراء هذه المصالحة التاريخية، يأتي في مقدمتها، انتقال عدوى الاستقرار إلى الصومال والسودان، إذ يعتقد مراقبون أن نجاح المصالحة سيمثل اختبارا جديا قد يشجع الصوماليين على وقف الحرب والسير في طريق المصالحة، كما أنه يساعدهم على التحرك للتخلص من الأجندات الأجنبية التي تسهم بشكل واضح في توسيع دائرة الحرب ومنع توحيد البلاد وبناء أجهزة أمنية قوية تحتكم لقرار الدولة وليس لمصالح الميليشيات المتنافرة ومموليها الأجانب.
كما يؤكد تزامن إغلاق ملف الحرب الأهلية في جنوب السودان، مع طي صفحة أسوأ حرب بين إريتريا وإثيوبيا، أن هناك تقديرات جديدة تجوب منطقة القرن الأفريقي ترى ضرورة كبيرة في توفير الأمن والاستقرار لدولها. فبعد خمس سنوات من الحرب الأهلية بين الرئيس سلفا كير ونائبه السابق رياك مشار، وعلى خلفية مساعي السلام المبذولة من قبل كل من أديس أبابا والخرطوم وكمبالا، توصل الطرفان إلى الاتفاق على أن يكون هناك أربعة نواب للرئيس، وهما نائبا الرئيس الحاليان ورياك مشار الذي سيتولى منصب النائب الأول للرئيس، على أن يتم تكريس منصب النائب الرابع للعنصر النسوي من المعارضة.
ثاني المردودات الإيجابية إنهاء مفعول الأجندات الخارجية التي تحاك بالمنطقة، إذ تشهد منطقة القرن الأفريقي منذ فترة هجوما لأجندات مختلفة بينها أجندة تركية تحاول تطويق مصر والتسلل إلى البحر الأحمر مستفيدة من أدوار ثانوية تلعبها الدوحة لخدمة الأجندة التركية ومنها إرباك استراتيجية السعودية والإمارات في تأمين الممرات المائية وتحرير الملاحة الدولية في البحر الأحمر حفاظا على الأمن القومي الخليجي ككل.
ثالث المردودات ذات الطبيعة التنموية، جعل المنطقة تتمتع بالأمن والاستقرار، ومن ثم تهيئة بيئة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، لاستدامة التنمية الاقتصادية بديلاً عن الصراعات المسلحة، ما ينعكس في طبيعة التعاون مع الدول الأخرى مثل الصين، والولايات المتحدة.
إذ تملك بكين علاقات قوية مع غالبية دول شرق أفريقيا، وقامت بتشييد قاعدة عسكرية حديثا في جيبوتي، ووضع مشروعها العملاق، المعروف بـ “حزام واحد وطريق واحد”، دولا أفريقية كثيرة ضمن أولوياته، ما فرض عليها زيادة التحركات لحماية مصالحها عن طريق المساعدات الاقتصادية والتكنولوجية البناءة.
رابع المردودات : تحجيم وتقليص نفوذ التمدد الإيراني في القرن الأفريقي، وتأمين المصالح العربية في البحر الأحمر وخليج عدن والخليج العربي، وذلك على خلفية تمدد نفوذها في اليمن ودعمها للحوثيين، الأمر الذي أثر سلباً على الأمن والتنمية في تلك المنطقة الاستراتيجية من العالم.
يبقى القول إن المواقف العربية والإقليمية والدولية المؤيدة والداعمة لاتفاق السلام بين أسمرة وأديس أبابا، تشكل هي الأخرى رسائل دعم قوية تسعى لتحقيق الأمن والتنمية في شرق أفريقيا وبالأخص منطقة القرن الأفريقي.
المصدر : أ ش أ