تشكل القمة الروسية الأمريكية المقرر عقدها فى هلسنكى فى السادس عشر من يوليو الجاري، خطوة مهمة ليس فقط فى تاريخ علاقات روسيا والولايات المتحدة، وإنما في تحولات السياسة العالمية وبداية حوار متعدد المستويات والموضوعات والقضايا، ولن يقف بطبيعة الحال عند العلاقات الثنائية للبلدين، وقضايا الاستقرار الاستراتيجي.
ولعل هذه القمة هى الثانية بين الرئيس الروسي بوتين والأمريكي ترامب، وكانت الأولي قد عقدت على هامش قمة مجموعة الـ20 فى مدينة هامبورج الألمانية، فى 7 يوليو من العام الماضى.
وكان الرئيسان بوتين وترامب قد سبق أن أعربا عن يقينهما من أهمية وضرورة اللقاء، نظرا لتراكم الكثير من المشكلات والقضايا العالقة بين البلدين، منذ ما قبل تقلد الرئيس ترامب مهام منصبه فى البيت الابيض، وهو الذى طالما أطلق الكثير من الوعود خلال حملاته الانتخابية حول عزمه تحسين علاقاته مع موسكو، وقال أنه لا ينوى اغلاق الأبواب أمام مواصلة الحوار مع نظيره الروسى بوتين، مؤكداً أن ذلك لا يخدم فقط مصالح البلدين، بل قضايا الأمن والسلام العالميين.
ملفات عاجلة وأخرى مؤجلة
من المقرر أن تناقش القمة ملفات عاجلة أحدثت إزعاجاً في العلاقات بين البلدين، ومنها ما تداولته بعض وسائل الإعلام العالمية وكذا أحد أجهزة الأمن الأمريكية بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية وبعض قضايا الشرق الأوسط مثل الأزمة السورية وتزايد النفوذ الإيراني والروسي في هذا الملف وقضية العلاقات الأمريكية الأوروبية وموقف روسيا منها، في حين ستكون هناك ملفات مؤجلة تنتظر تقديم تنازلات من الجانبين والأفضل لها الوصول لتفاهمات مستقبلية بشأنها.
فقبل فترة على القمة المرتقبة، أعلن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، عن أبرز الملفات التى يعتزم مناقشتها مع نظيره الروسى فلاديمير بوتين، حيث أكد أنه ينوى مناقشة قضية تدخل روسيا فى الانتخابات الأمريكية، وهو الأمر الذى سبق ونفته موسكو مرارا وتكرارا، مؤكدة عدم صحة تقييم لوكالات المخابرات الأمريكية، يفيد بأن موسكو سعت للتدخل فى الانتخابات الأمريكية عام 2016 لتعزيز فرص ترامب ليصبح رئيساً على حساب هيلاري كلينتون.
ووفقاً للدراسات المتخصصة في العلاقات الدولية، فإن الآمال معلقة على تلك القمة لإذابة جبل الجليد فى العلاقات الدبلوماسية بين واشنطن وموسكو، والتى نتج على إثرها طرد دبلوماسيين من البلدين وتبادل إغلاق السفارات والقنصليات فى نوع من التصعيد يعيد للأذهان أجواء الحرب الباردة بين الدولتين العظميين خلال حقبة الاتحاد السوفيتى السابق.
ولعل الملف الأكثر أهمية للجانبين هو ملف سباق التسلح، وما يترتب عليه من تزايد الانفاق العسكري، وهو الأمر الذي يرغب فيه ترامب من إعادة تقييم وحساب كل الأمور السياسية والعسكرية بالتكلفة والعوائد الاقتصادية، أما بوتين فيرغب في إعادة روسيا لمكانتها العالمية اللائقة لها، الأمر الذي خلق حالة من التنافس الاستراتيجي بين البلدين.
ترتكز حالة التنافس الإستراتيجي بين الكرملين والبيت الأبيض على أمور عدة، أولها تقزيم أمريكا لدور روسيا العالمى وتحجيمه، من خلال توسيع حلف الناتو ليضم عددا من الدول فى أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتى، بعدما كانت خاضعة تماما للثانية، ناهيك عن محاولات ضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبى وحلف الناتو، بينما تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية روسيا خصما استراتيجيا لها لابد من تحجيم دورها فى العديد من دول العالم، خاصة مع تنامى دور روسيا فى الشرق الأوسط ممثلا فى سوريا وإيران وليبيا.
علاوة على ذلك فإن حالة التنافس الإستراتيجي تلك تتجلى فى تجنب الطرفين أى مواجهات مباشرة والاكتفاء بالحرب الباردة التى تقودها الأطراف الداعمة لتلك الدول، مثلما حدث فى سوريا وأفغانستان من خلال دعم روسيا لحركة طالبان فى مواجهة أمريكا، كما أن التنافس بين الدولتين أيضا يتمثل فى رغبة كل منهما فى تزعم النظام الدولى، فروسيا استعادت قوتها الاقتصادية فى عهد الرئيس فلاديمير بوتين، كما أنها تتمتع بنظام عسكرى قوى فى حين أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يرى أن دولته مازالت متربعة على عرش النظام الدولى وقادرة على التحكم فيه.
توقعات مستقبلية
يرى مراقبون أن القمة المرتقبة تصب فى مصلحة الرئيس الروسى بوتين وتدعم مواقعه على خريطة السياسة الاقليمية والدولية، فيما يرى آخرون أن ما جرى ويجرى من أحداث يأتى فى وفاق مع ما أعلنه ترامب من سياسات تصب فى مجملها لصالح ما يتخذه من قرارات على الصعيد الداخلى ويدعم مواقعه فى مواجهة خصومه قبيل الانتخابات النصفية للكونجرس فى نوفمبر الماضي.
وكان ترامب قد حقق الكثير على صعيد ترويض العديد من فرسان الساحات السياسية فى أوروبا، بما يخدم مصالح المؤسسة الصناعية العسكرية وكبريات الشركات والمؤسسات الامريكية فى أوروبا ومنطقة الشرق الاوسط، فى توقيت مواكب لدعم علاقاته مع أبرز نجوم المعسكر الشرقى فى روسيا والصين وكوريا الشمالية.
وبعيدا عن حالات التنافس الاستراتيجي، تبقى المصلحة هى الرابط الأساس فى علاقة تلك الدول ببعضها البعض وهذا يتجلى فى اعتراض أوروبا على العقوبات الأمريكية ضد روسيا، خاصة وأن هناك بعض أجندات القضايا المشتركة بين البلدين على سبيل المثال محاربة الإرهاب وداعش فى سوريا، وهو أمر بالتأكيد فى مصلحة المجتمع الأوروبى الذى يعد الرابح الأول من تحقيق التقارب بين روسيا وأمريكا.
ووفقاً لأدبيات العلوم السياسية فإن القمة مرشحة للوصول لما يمكن تسميته بـ”آليات الانفراج”، والتنازلات المتبادلة، وعلى سبيل المثال أن يسلم ترامب بمصالح روسيا فى سوريا وخروج قواته من هناك، مقابل تنازلات من جانب موسكو فيما يتعلق بالملف الايراني، فى حدود المسائل المتعلقة بوجود فصائل الحرس الثورى فى سوريا والحد من رغبات إقامة قواعد ايرانية هناك.
يبقى القول أنه إذا لم تحقق القمة الأمريكية الروسية كل الغايات والأهداف المرسومة لها، فيكفي أن الأجواء فى العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا يمكن أن تتغير، وأن ثمة إمكانية لاتفاقات بشأن سوريا ونزع السلاح والعديد من الملفات الأخرى على الساحات العربية والشرق أوسطية والأوروبية والعالمية.
المصدر : أ ش أ