تمضي مصر قدما بكل الحسم والعزم على صعيد حماية تراثها وأثارها فيما تنجز مشاريع عملاقة تشكل صروحا متحفية لعرض الآثار كما يتجلى في المتحف المصري الكبير وكأن لسان حال المصريين :”يد تبني ويد تحمي ثقافتنا واثارنا”.
وكانت السفيرة هبة المراسي مساعد وزير الخارجية للعلاقات الثقافية قد صرحت بأن وزارة الخارجية تسلمت امس الأول “الخميس” ثماني قطع اثرية مصرية فضلا عن لوحة لقناع فرعوني من الخشب قامت السلطات الفرنسية بضبطها في محطة للقطارات بباريس.
وأوضحت ان السفارة المصرية في باريس تواصلت مع السلطات الفرنسية لوقف بيع تلك القطع واتخاذ الخطوات اللازمة لتسليمها إلى السفارة واعادتها لمصر فيما قامت وزارة الخارجية بالتنسيق مع وزارة الآثار بإثبات أثرية تلك القطع واستيفاء جميع الإجراءات القانونية اللازمة لاعادتها لموطنها الأصلي.
وفي خطوة تعزز ثقافة حماية التراث والآثار المصرية كان مجلس النواب قد اقر مشروع حماية الآثار فيما جرى تغليظ عقوبة ارتكاب جريمة تهريب الآثار لتصل الى السجن المؤبد مع غرامة مالية تصل لعشرة ملايين جنيه.
وجنبا الى جنب مع البيئة التشريعية المواتية لحماية التراث والآثار تمضي مصر قدما في مشاريع عملاقة للبنية الأساسية المتصلة بالآثار والبيئة المواتية لعرضها متحفيا بأفضل صورة ممكنة كما يتجلى في مشروع “المتحف المصري الكبير” الذي يقع بالقرب من أهرامات الجيزة ويستوعب هذا الصرح الأثري العملاق خمسة ملايين زائر سنويا.
ويعد المتحف المصري الكبير اكبر متاحف العالم حيث يصل مجموع مساحته إلى 500 الف متر مربع ويعرض فيه ما يصل الى 100 ألف قطعة أثرية من الحضارة المصرية القديمة منذ ما قبل التاريخ وحتى العصرين اليوناني والروماني في مصر ويتضمن كافة التجهيزات الثقافية التي تعزز ثقافة الوعي الأثري وحماية التراث وخاصة لدى النشء ومن بينها مكتبة ومتحف للطفل مع وسائط إلكترونية تفاعلية ، فضلا عن “ممشى سياحي عالمي يربط مابين المتحف والأهرامات التي تشمخ كاحدى عجائب الدنيا السبع”.
وفي تصريحات صحفية كشف الدكتور طارق توفيق المشرف العام على “المتحف المصري الكبير” أن الافتتاح الجزئي للمتحف سيكون في غضون الربع الأول من العام المقبل لافتا الى انه ولأول مرة ستعرض “مجموعة الملك توت عنخ آمون” والتي يصل عددها الى اكثر من خمسة الاف قطعة كاملة ومجتمعة في مكان واحد.
وكان اكثر من ثلثي القطع الأثرية الخاصة بالملك الشاب والمثير للجدل واهتمام وفضول العالم “توت عنخ آمون” داخل مخازن بمتحف ميدان التحرير غير أن كل هذه القطع الأثرية ستكون متاحة امام الزائرين للمتحف المصري الكبير.
وحسب ما أعلنه الدكتور طارق توفيق فمن المقرر الإعلان غدا “الأحد” في مؤتمر صحفي بمقر المتحف المصري الكبير في ميدان الرماية عن “بدء التأهيل المسبق لإدارة وتشغيل خدمات المتحف المصري الكبير” فيما يشهد هذا المؤتمر الصحفي لفيف من السفراء الأجانب وممثلي الشركات المعنية.
وأشار الى ان وزارة الآثار ستتولى وحدها إدارة كل ما يتعلق بالقطع الأثرية ومسؤولية تأمينها فيما سيعلن في المؤتمر الصحفي المرتقب غدا عن الشعار الجديد “اللوجو” للمتحف المصري الكبير تمهيدا لبدء الحملة الترويجية للمتحف في الداخل والخارج.
ومن الطبيعي أن يحظى هذا الصرح الأثري العملاق بترحيب وحفاوة كل المثقفين في مصر والعالم فيما تتعدد الألوان الثقافية في رحاب المتحف المصري الكبير حتى أنها تشمل ضمن تفاصيل الحياة للمصريين القدامى المأكولات ومساحيق التجميل وتجليات الأمومة.
وإذا كان المتحف المصري الكبير بمكوناته وأبعاده المتعددة بما فيها البعد الترفيهي يشكل نقلة نوعية على صعيد تعزيز السياحة الثقافية ويثير الفخر بإنجازات الحاضر وتراث الأجداد فانه يوميء أيضا لأهمية تعظيم ثقافة حماية التراث والوعي الأثري وهي قضية موضع اهتمام الجماعة الثقافية المصرية.
وفي سياق رصد لممارسات التنقيب غير المشروع عن الآثار والسرقات اعتبرت الكاتبة والناقدة الثقافية سناء صليحة ان “غياب ثقافة الوعي الأثري” احد أسباب هذه القائمة الطويلة من التعديات والانتهاكات.
وخلصت صليحة إلى أن “بداية حل المشكلة والحفاظ على ذاكرة الأمة وجزء مهم من تراث الانسانية تتطلب تدخلا سريعا لبناء ثقافة جديدة تحترم التراث ولا تهدر الأثر او تحتفى بتناقص عدده..ثقافة تؤكد التعايش بين سكان المناطق ذات الطابع التاريخى مع البيئة الأثرية “.
ودعا عالم الجيولوجيا المصري الدكتور فاروق الباز لمشاركة الشباب في الحفاظ على الآثار المصرية وتوقع أن “الكثير منهم على استعداد للمساهمة الفعالة في هذا الغرض النبيل” لافتا الى ان مصر “تزخر ارضها بسجل رائع من المواقع والأبنية والزخارف والمخطوطات الفريدة” ويشمل ذلك ماتركه القدماء منذ آلاف الأعوام من البنيان والابتكارات المعمارية والفنية والعلمية والثقافية.
وكان الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار الدكتور مصطفى وزيري قد توجه مؤخرا الى إيطاليا لمعاينة قطع اثرية ضبطت بمدينة نابولي واعداد تقرير شامل عن تلك القطع واستردادها واعادتها لأرض الوطن في حالة التحقق من ” مصريتها كقطع اثرية”.
وأشارت تقارير صحفية الى احتمال ان تكون هذه القطع قد نتجت من “الحفر خلسة وبصورة غير مشروعة” نظرا لأنها ليست من مفقودات مخازن أو متاحف وزارة الآثار فيما يشير الدكتور زاهي حواس وزير الآثار الأسبق وعالم المصريات الذي يحظى بشهرة عالمية الى ان جهود استرداد الآثار المصرية التي هربت للخارج لم تتوقف لافتا الى انها “ظاهرة تاريخية” .
ففي القرنين السادس عشر والسابع عشر نهبت الكثير من الآثار المصرية وكان يتم استخراج التماثيل والمسلات الضخمة وارسالها للخارج في كل مكان بالعالم على حد قول الدكتور زاهي حواس الذي قام بدور مهم في استعادة بعض الآثار المصرية المهربة للخارج.
وفي مطلع العام الحالي ، أعلنت وزارة الآثار عن استعادة بقايا مومياوات فرعونية ضبطت في الولايات المتحدة أثناء محاولة شخص بيعها لاحدى صالات المزادات في “مانهاتن” فيما سلمتها السلطات الأمريكية للقنصلية المصرية بنيويورك.
وتشكل قضية الآثار والتحف والنفائس المنهوبة هاجسا يؤرق العالم كله بقدر ما تحولت هذه القضية الى هم فى الآونة الأخيرة وموضع نقاش في المنابر الثقافية المتعددة فضلا عن إصدارات الكتب ومن بينها كتاب صدر بالانجليزية بعنوان “مطاردة افروديت..البحث عن التحف المنهوبة فى أغنى متحف بالعالم”.
وفي هذا الكتاب يقول المؤلفان جاسون فيلش ورالف فرامولينو انه فى العقود الأخيرة باتت سوق النفائس والتحف التاريخية اكثر ميلا لتعاملات مشبوهة وصفقات منكرة تجرى تحت جنح الظلام.
وعبر الكتاب الذى يقع فى 375 صفحة استعرض المؤلفان التاريخ الطويل لنهب وسرقة التحف والنفائس والآثار منذ الامبراطورية الرومانية وحتى الامبراطورية البريطانية وصولا للمرحلة الراهنة.
ويعد متحف بول جيتى الأمريكى الذى يشتهر بمجموعته من الأثار اليونانية والرومانية مثالا لمتاحف تواجه مشاكل بسبب قبولها لبعض الآثار التي نهبت من دول اخرى ونقلت لها بصورة غير مشروعة .
وفيما لا يدخر الإيطاليون جهدا فى استعادة تراثهم المسروق كان مسؤولون أمريكيون قد اعلنوا ان متحف بول جيتى الخاص فى لوس انجلوس وافق على اعادة 40 قطعة اثرية الى ايطاليا من اشهرها “تمثال افروديت” ربة الحب والجمال فى الاساطير اليونانية بموجب اتفاق ينهى نزاعا طال امده بين الجانبين.
والى جانب متحف جيتى-نجح الايطاليون عبر التقاضى امام محاكم امريكية فى استعادة نحو مائة تحفة واثر تاريخى من خمسة متاحف فى الولايات المتحدة كانت قد استحوذت على هذه التحف والآثار المسروقة من ايطاليا ومن بينها متحف بوسطن للفنون الجميلة.
ويتضمن كتاب “مطاردة افروديت” العديد من اسماء تجار الأثار والمتعاملين فى هذا العالم الغامض والحافل بالأسرار ومن المعتقد ان تمثال افروديت ربة الحب والجمال فى الاساطير اليونانية قد اشتراه متحف جيتى فى عام 1988 من تاجر أثار فى لندن بـ 18 مليون دولار دون معرفة اصل هذا التمثال الذى يعود للقرن الخامس قبل الميلاد فيما أعيد التمثال بالفعل لمتحف ايدونى فى صقلية.
وسمى متحف جيتى على اسم قطب النفط الراحل بول جيتى الذى تبرع فى وصيته للمتحف بمليار دولار فيما يسرد كتاب “مطاردة افروديت” وقائع مثيرة للعنة هذا المتحف منذ بدايات الثمانينيات فى القرن العشرين حيث اختلطت فضائح الآثار المسروقة والتحف المنهوبة بعمليات تزوير وتزييف ليتحول المتحف الى علامة لسوء السمعة واشارة لعالم الاسرار الشنيعة لتهريب الاثار.
واكتسبت قضايا تهريب الآثار المزيد من الأهمية والخطورة مع تورط تنظيمات إرهابية كتنظيم داعش في عمليات التهريب والاتجار بالآثار فيما تؤكد تقارير متعددة ان هذه الأنشطة للتنظيمات الإرهابية رصدت في بلدان عربية مثل ليبيا والعراق وسوريا.
ولم ينس العراقيون ولا العالم ككل ما فعله تنظيم داعش الإرهابي بعد أن احكم قبضته على مدينة الموصل في عام 2014 وحرص هذا التنظيم الظلامي الدموي عبر آلته الدعائية على بث صور ولقطات بالفيديو لمقاتليه وهم يدمرون قطعا أثرية في متحف الموصل تعود الى القرن الثامن قبل الميلاد.
ومع أن مدينة الموصل تحررت من قبضة الدواعش منذ اكثر من عام فان ذاكرة الإنسانية لن تنسى الدمار الذي حل بمواقع أثرية هائلة نائية في محيط هذه المدينة العراقية الكبيرة ، وكان أستاذ الآثار في جامعة الموصل أمير الجميلي قد ذكر منذ نحو عامين انه احصى تدمير نحو 160 موقعا اثريا على يد تنظيم داعش بعد ان دخلت عناصر هذا التنظيم الارهابي ثاني اكبر مدن العراق .
ورغم الجنون الظاهر لعناصر داعش اثناء الانهماك في تدمير الآثار فان خبراء في هذا المجال اكدوا على ان هذه العناصر كانت منهمكة ايضا في عمليات سطو وسلب ونهب لبعض النفائس الأثرية ومن بينها عشر قطع من متحف الموصل وهي قطع لم تظهر في أشرطة الفيديو التي كان يبثها التنظيم الارهابي لعمليات تدمير الآثار اثناء سيطرته الآثمة على هذه الحاضرة العراقية.
وإذ يدحر المصريون تنظيمات الإرهاب الدموي الظلامي دفاعا عن الإنسانية كلها فان “عين حورس” يقظى على متسع الأفق ولن يفرط المصريون فى تاريخهم وتراثهم واثارهم ابدا..انها مصر مبدعة الحكمة والمتوشحة بأوشحة التاريخ والمجد!.
المصدر: أ ش أ