لطالما كان أكراد العراق رمانة الميزان في المشهد السياسي العراقي في مرحلة ما بعد الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003. فمنذ ذلك التاريخ أصبح إقليم كردستان العراق قوة توازن سياسي مهمة وحاسمة كثيرا من الأحيان، بين مكونات هذا المشهد، لاسيما في ظل حالة الانقسام في صفوف كل من السنة والشيعة العرب. هذا الوضع السياسي المتميز، إلى جانب حالة الاستقرار الأمني والاقتصادي النسبي التي عاشها إقليم كردستان، على عكس باقي مناطق العراق، منح الاقليم نفوذا وتأثيرا سياسيا كبيرا وجعل مختلف القوى السياسية العراقية تخطب ود الأكراد، وتسعى للحصول على دعمهم.
وفي ضوء هذا الوضع الجيوسياسي تمّكن الأكراد من لعب دور مؤثر في كل الاستحقاقات السياسية والانتخابية التي شهدها العراق على مدى السنوات الماضية . حيث حصلوا على منصب رئاسة الجمهورية إلى جانب العديد من المناصب الوزارية المهمة في مختلف الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2005 . وقد ساعدهم في ذلك أيضا وحدة الصف والقرار الكرديين تحت سيطرة الحزبين الكبيرين وهما: الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني الذي أصبح أول رئيس غير عربي للعراق منذ عام 2005 وحتى 2014.
لكن المشهد السياسي الكردي يبدو هذه المرة مغايرا تماما مع اقتراب موعد الاتخابات البرلمانية في العراق والمقررة بعد غد السبت (12 مايو)، وذلك نتيجة التداعيات السياسية والاقتصادية الفادحة التي خلفها الاستفتاء الذي جرى في 25 سبتمبر من العام الماضي في اقليم كردستان، على الانفصال عن العراق. إذ يبدو أن الأكراد سيدفعون ثمنا سياسيا باهظا لهذه الخطوة غير المحسوبة العواقب من قبل القيادة الكردية، والتي أصرت على المضي قدما في اجراء الاستفتاء رغم معارضة الحكومة المركزية العراقية في الداخل ورفض القوى الاقليمية وتحذيرات الاطراف الدولية من هذه الخطوة.
على ما يبدو لن تتوقف تبعات هذا الاستفتاء الذي يطلق عليه البعض وصف “نكسة أو نكبة الأكراد” عند تبدد حلم مسعود البارزاني في إقامة الدولة الكردية المستقلة، ولا في ضياع المكاسب السياسية والاستراتيجية التي حققها الأكراد نتيجة مشاركتهم في الحرب على تنظيم “داعش”، ولا في خسارة مساحات واسعة من المناطق التي كان يسيطر عليها الأكراد بما فيها محافظة كركوك الغنية بالنفط، وهي المناطق المتنازع عليها والتي كانت تحت سيطرة البيشمركة الكردية بحكم الأمر الواقع، ولا في العقوبات الاقتصادية التي فرضتها بغداد على الاقليم. بل إن هذه التبعات تتجاوز كل ذلك وتتعلق هذه المرة بالاستحقاق الإنتخابي المرتقب في العراق، والذي يأتي في ظل وضع هو الأسوأ سياسيا واقتصاديا بالنسبة للأكراد العراقيين.
إذ تأتي الانتخابات البرلمانية وفي وقت يشهد فيه إقليم كردستان حالة من الفوضى والانقسام السياسي داخل البيت الكردي، وفي ظل أزمة إقتصادية ناجمة عن العقوبات التي فرضتها الحكومة العراقية على الإقليم، وهو ما يلقي بظلاله على فرص الأكراد في هذه الانتخابات واحتمالات خسارتهم العديد من المقاعد البرلمانية، ومن ثم تراجع دورهم المؤثر في المعادلة السياسية العراقية القائمة.
فعلى صعيد الداخل الكردي، أحدث الخلاف على الاستفتاء ونتائجه شرخا عميقا في العلاقات بين الأحزاب السياسية الكردية وهو ما أنعكس في فشل هذه الأحزاب في تشكيل ائتلاف موحد لخوض الانتخابات البرلمانية، بالرغم مما تمثله هذه الانتخابات من أهمية وخطورة بالنسبة للاكراد واقليمهم . وتعيش الساحة السياسية الكردية في هذه الفترة حالة التشتت حالت دون تشكيل تحالف انتخابي موحد، لاسيما في المناطق المتنازع عليها والتي تمثل أهمية كبرى للحفاظ على حصة الأكراد في مجلس النواب القادم.
وتتوزع الخريطة الحزبية الكردية بين كل من الحزبين الرئيسين، وهما: الديموقراطي الكردستاني، وهو الحزب الذي يسيطر على مفاصل السلطة في الاقليم منذ ربع قرن، والاتحاد الوطني الكردستاني الذي فقد الكثير من وزنه السياسي بعد وفاة زعيمه جلال طالباني وانشقاق نائب الأمين العام للحزب برهم صالح وتأسيسه لـحزب جديد باسم التحالف من أجل الديموقراطية والعدالة، إلى جانب حركة التغيير المنشقة عن الإتحاد الوطني الكردستاني ، والاتحاد الإسلامي الكردستاني، والجماعة الإسلامية.
وتخوض الأحزاب الرئيسية الثلاثة في الإقليم وهي (الحزب الديموقراطي والاتحاد الوطني والاتحاد الإسلامي)، الانتخابات بقوائم منفردة. وبينما يخوض الحزب الديمقراطي الانتخابات في محافظات الإقليم الثلاث (أربيل والسليمانية ودهوك) فإنه يقاطعها في كركوك والمناطق المتنازع عليها، والتي تخوض الانتخابات فيها أحزاب المعارضة الكردية الرئيسية بقائمة إنتخابية موحدة باسم “قائمة الوطن” وتضم حركة التغيير والتحالف من أجل الديقراطية والعدالة والجماعة الإسلامية الكردستانية .
ويتنافس عن الأكراد في الانتخابات العراقية المرتقبة، نحو 503 مرشحين ضمن 77 لائحة للفوز ب 46 مقعدًا للأكراد في مدن أربيل والسليمانية ودهوك. وكانت الأحزاب الكردية قد حصلت في انتخابات 2014 على 57 من أصل 315 مقعدا هي عدد مقاعد البرلمان العراقي، وكان للأكراد 62 نائبا في البرلمان السابق، من ضمنهم نواب منتخبون في كركوك ونينوى وديالى وبغداد. وقد سمح هذا العدد للأكراد بلعب دور مؤثر في المشهد السياسي العراقي.
لكن في ظل حالة التشرذم الراهنة وخسارة محافظة كركوك، التي كانت تشكل أهمية انتخابية كبرى للأكراد بالنظر لوزنها السكاني، فإن سياسيين أكراد يتوقعون تراجعا كبيرا في عدد المقاعد الكردية في البرلمان القادم، خصوصا في المناطق المتنازع عليها مثل نينوى وديالى وكركوك، والتي باتت تحت سيطرة القوات العراقية ومع موجات النزوح الكبيرة للعوائل الكردية والتي لن يستطيع أغلبها المشاركة في الانتخابات.
إلا أنه ورغم التراجع اللافت في موقعهم في المعادلة السياسية العراقية نتيجة كل العوامل السابقة، سيبقى للأكراد كلمتهم ودورهم المؤثر في هذه المعادلة، لاسيما في ظل التنافس العنيف بين القوى الحزبية الشيعية على تمثيل المكون الشيعي العراقي وتأمين أغلبية نيابية في البرلمان القادم، وفي ضوء حالة الانقسام والضعف التي يعاني منها السنة العرب والأحزاب الممثلة لهم. وربما هذا ما يفسر سعى كل من رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي للفوز بتأييد القوى الكردية؛ لا سيما في مرحلة ما بعد الانتخابات.
هذا الوضع من شأنه أن يتيح للأكراد، حتى مع احتمال تراجع حصتهم البرلمانية، هامشا جيدا للمناورة لتحقيق مكاسب سياسية سواء على صعيد المناصب الوزارية التي سيحصلون عليها في الحكومة الجديدة القادمة أو الحصول على رئاسة البرلمان القادم كما يأملون، أو فيما يتعلق بالقضايا العالقة بين الاقليم والحكومة المركزية. ويرى مراقبون أن الأكراد، ورغم ما يعيشونه من انقسام حاليا، فإن المصالح القومية العليا للاقليم قد تدفعهم لتجاوز هذا الانقسام وتشكيل تحالف برلماني يمكنهم من استعادة دورهم الوازن في البرلمان المرتقب.
المصدر:أ ش أ