لم تفلح المساعي الدبلوماسية التي جرت بين الهند والصين في تهدئة التوتر في العلاقات المتأزمة منذ قرابة الشهرين، بل وصلت لطريق مسدود على خلفية أزمة الحدود في منطقة دوكلام، والتنافس بين بكين ونيودلهي على الوجود الاستراتيجي في القارة الأفريقية بوجه عام، والتواجد العسكري في المناطق الاستراتيجية منها وتحديداً في جيبوتي عند مدخل البحر الأحمر بوجه خاص.
الأمر الذي زاد من حدة التوتر في العلاقات بين الهند والصين، مما دفع وسائل الإعلام الصينية المملوكة للدولة إلى الحديث عن “إجراءات مضادة لا مفر منها” في منطقة الحدود غير المرسومة، في ظل إصرار صيني على أن تسحب الهند جنودها من جانب واحد من هضبة دوكلام، وسط تمسك كل منهما بموقفها من نزاع حدودي يندرج في إطار استراتيجيات إقليمية أوسع.
برز الخلاف إلى الواجهة بين البلدين مع شق بكين طريقاً على طول حدودها الغربية، يصل إلى وادي تشومبي، في منطقة تتوسط الصين والهند ومملكة بوتان، وحاولت بكين التقدم إلى داخل المنطقة لتصل إلى هضبة دوكلام التابعة لبوتان، وردت الهند على ذلك بإرسال جنود لطرد عمال البناء التابعين للجيش الصيني.
وتعد هذه هي المرة الأولى التي تحشد فيها الهند قوات لحماية مصالح بوتان في تلك الأراضي، وتؤكد الصين أن الجنود الهنود لا شأن لهم، ولا ينبغي لهم التواجد في تلك المنطقة، متهمة الهند بالتصرف نيابة عن بوتان. وفي الوقت الذي تقول فيه بكين أن القوات الهندية تنتشر على أراض صينية، تقول كل من بوتان والهند أن تلك المنطقة أرض تابعة لبوتان
وتعد بوتان مملكة صغيرة جداً بالنسبة إلى الصين والهند، ولا يتعدى عدد سكانها المليون نسمة، وتعتمد على الهند في الدفاع عنها. وأدى ذلك إلى إرسال الهند تعزيزات عسكرية إلى منطقة الهضبة، وإلى مطالبة الصين لها بسحبها لأنه من وجهة نظرها تعتبر الهضبة “أرضاً صينية”.
أهمية دوكلام الاستراتيجية
تعد هذه الهضبة ذات أهمية كبرى لكل من الهند والصين، فهي منطقة استراتيجية لحماية أو شن هجوم على مضيق سيليجوري الذي يربط الهند بمناطقها الشمالية الشرقية النائية. وإذا خسرت الهند السيطرة على المضيق يعني ذلك فصل عدد كبير من الولايات عن الوطن الأم، ولهذا ترفض الهند أن تتسامح مع أي وجود صيني قريب منه، ولو في شكل طريق.
وبالنسبة للصين، فإن السيطرة على مضيق سيليجوري قد يضعها على بعد خطوات من الوصول إلى المحيط الهندي، عبر نهر براهمابوترا الذي يعبر بنجلادش ويوفر لها مصدر مياه عذبة، ويصب في المحيط.
وإذا تمكنت الصين من تأمين طريق إلى المحيط الهندي، فستجد حلاً لعوائق عدة تواجهها في بحر الصين الجنوبي الذي يتصاعد فيه التوتر، إذ تطالب بكين بالسيادة على غالبية مياه هذا البحر الذي تمر منه تجارة قيمتها بلايين الدولارات سنوياً، في مقابل مطالبة بروناي وماليزيا والفيليبين وتايوان وفيتنام بالسيادة على أجزاء منه.
ورغم الأهمية الاستراتيجية لهضبة دوكلام، إلا أن العلاقات بين الهند والصين، لن تصل إلى حالة الحرب، بسبب الطبيعة الجغرافية للمنطقة وتضاريسها الجبلية، والمناخ القاسي، والمخاطرة بخسائر مادية وبشرية كبيرة.
فضلاً عن الأثار النفسية للحرب التاريخية بين البلدين، فقد سبق للدولتين أن خاضتا حرباً قبل 55 سنة، في عام 1962، لكن بسبب نزاع حدودي في كشمير وولاية اروناشال براديش، غير أن التسوية التي أبرمت آنذاك لم تضع حداً نهائياً للنزاع الحدودي المتنقل.
يكشف هذا التوتر في العلاقات بين الهند والصين أن بوتان ربما تجعلها الظروف السياسية في وقت ما مصدراً من مصادر اشتعال حدة الصراع بين بكين ونيودلهي، وسط طموحات استراتيجية واقتصادية للبلدين في السيطرة في الممرات البحرية وطرق النقل والموانئ العالمية.
جدير بالذكر، أنه لا توجد أي علاقات دبلوماسية رسمية بين الصين وبوتان، وتتم الاتفاقيات مع بكين عبر السفارة الصينية في الهند، كما تضطلع القوات الهندية، المتمركزة في المنطقة، بدور حيوي في تدريب ومساعدة قوات بوتان، حيث يمثل التعاون بن البلدين في المجال الأمني، والشؤون الخارجية، عنصراً تاريخياً مهماً من العلاقات بين تيمفو ونيودلهي بموجب معاهدة الصداقة، التي تم إبرامها عام 2007.
باب المندب وأزمة الوجود
لم يقتصر التوتر بين بكين ونيودلهي على أزمة دوكلام، إنما كانت أزمة الوجود العسكري الصيني في قاعدة عسكرية في جيبوتي مصدراً مهما من مصادر التوتر والتنافس الاستراتيجي بين البلدين.
ففى يوليو الماضي، أرسلت الصين ولأول مرة عسكريين صينيين إلى أول قاعدة عسكرية لها فى الخارج، فى جيبوتى، وذلك بعد يوم واحد من قيام سفن حربية صينية بمناورة بالذخيرة الحية فى البحر المتوسط وهى فى طريقها إلى البحر الأسود وهو الأمر الذى ترك إشارات ودلالات واضحة على أن الوجود الصينى فى المنطقة بدأ يأخذ طابعا أكثر جدية وعسكرية أكثر من أى وقت مضى.
ورغم المبررات التي طرحتها بكين حول أسباب تواجد هذه القاعدة وتأكيدها بأن مهام القاعدة تحددت في: تأمين المهام الصينية مثل المرافقة وحفظ السلام والمساعدات الانسانية فى افريقيا وغرب آسيا. وتقديم المساعدة للأنشطة التى تتضمن التعاون العسكرى والتدريبات المشتركة وعمليات اخلاء وحماية الصينيين فى الخارج والحفاظ المشترك على أمن الممرات المائية الاستراتيجية الدولية وفى مقدمتها باب المندب وخليج عدن.
إلا أنه ثمة قلق دولي بشأن الوجود العسكرى الصينى فى جيبوتى وتبعاته على الخريطة الجيواستراتيجية العالمية بصفة عامة، وقلق أكثر من جهة الهند بصفة خاصة، إذ تناولت وسائل الإعلام الهندية الأمر بقدر كبير من التوجس فى ظل ما يمكن أن تحدثه القاعدة البحرية الصينية الجديدة فى جيبوتى من تأثيرات على ميزان القوى والإنتشار الجغرافى للقوة البحرية بين الدولتين. ومن المعروف أن الهند تترقب منذ فترة إمكانية قيام الصين بإنشاء قواعد فى المحيط الهندى حول المياه الإقليمية للهند.
ووفقاً للحسابات السياسية والإستراتيجية والمنطقية، فإن خطوط النقل البحرى فى المحيط الهندى تنقل 80% من النفط فى العالم وثلث البضائع العالمية، وأن العملاق الإقتصادى الصينى من المنطقى أن يتطلع إلى تأمين طرق موارده من الطاقة والنقل التجارى على طول تلك الممرات مما يتيح له تأدية دور أكبر فى الشئون العالمية.
ويبقى التأكيد على أن التوتر بين الصين والهند قد يستمر فترة ليست بالقصيرة، مدعوماً في ذلك من الولايات المتحدة التي تملك علاقات قوية مع الهند على حساب علاقات تنافسية مع الصين، وسط طموحات واستراتيجيات إقليمية أكثر تنافساً وحدة.
المصدر:أ ش أ