أسباب تسعة، إلى جانب حرب 1948 ، ضياع فلسطين ، وفضيحة الأسلحة الفاسدة ، كانت من العوامل التي عجلت بقيام تنظيم الضباط الأحرار في الجيش المصري بزعامة جمال عبد الناصر بالثورة التي تحل ذكراها ال 65 يوم بعد غد (الاحد )، لتبقى ثورة ٢٣ يوليو أضخم وأكبر حدث في حياة المصريين والتاريخ .
ومازالت الثورة حتى يومنا هذا تقف شامخة مرفوعة الرأس باعتبارها واحدة من أهم أحداث القرن العشرين ، فهي ثورة العصر الذهبي للطبقة العاملة المطحونة التي عانت من الظلم والحرمان من العدالة الاجتماعية.
ظلت الثورة على مدى٦٥ عاما من عمرها ذات جذوة مشتعلة ، واستطاعت التأثير بقوة في المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية محليا وإقليميا ودوليا ، فباتت أم كل الثورات العربية التي خرجت من رحمها ثورات عربية عديدة ، فساعدت اليمن الجنوبي في ثورته ضد المحتل حتى النصر وإعلان الجمهورية ، وساندت الشعب الليبي في ثورته ضد الاحتلال ، ودعمت حركة التحرر في تونس والمغرب حتى الاستقلال ، ودافعت عن حق الصومال في تقرير مصيره ، وساهمت في استقلال الكويت ، وقامت بدعم الثورة العراقية والسورية ، وساندت الشعوب في محاربة الاستعمار بكافة أشكالة وصوره في أفريقيا وآسيا.
وتلخصت أسباب قيام الثورة في استمرار تجاهل الملك فاروق للأغلبية واعتماده على أحزاب الأقلية ، وقيام اضطرابات داخلية وصراع دموي بين الإخوان المسلمين وحكومتي النقراشي باشا وعبد الهادي باشا ، وقيام حرب فلسطين، وفشل مجلس الأمن فى اتخاذ قرار لصالح مصر عند عرض قضية جلاء القوات البريطانية عنها ، وتقليص حجم وحدات الجيش الوطني بعد فرض الحماية البريطانية على مصر ، وإرسال معظم قواته إلى السودان بحجة المساهمة في إخماد ثورة المهدي ، وإغلاق المدارس البحرية والحربية ، وسوء الحالة الاقتصادية في مصر ، والظلم وفقدان العدالة الاجتماعية بين طبقات الشعب وسوء توزيع الملكية وثروات الوطن ، وسفاهة حكم الملك فاروق وحاشيته في الإنفاق والبذخ على القصر وترك الشعب يعاني من الفقر والحرمان.
إرهاصات الثورة ودلائلها الاجتماعية والسياسية كانت لا تخفى على أحد ، فقد تضمنت التقارير البريطانية على مدى الأعوام من عام ١٩٤٥ إلى عام ١٩٥٠ مرور مصر بحالة من الغليان ، وكانت تتحدث دائما عن وجود حالة سخط وتذمر داخل صفوف الجيش ، ولم تأخذ القيادة البريطانية هذه التقارير مأخذ الجد ، فحفلت تلك الفترة بالإضافة إلى سنوات ٣ أخرى بأحداث عنف واضطرابات اجتماعية، عززها عودة الوفد إلى الحكم، ثم حريق القاهرة في يناير عام 1952.
وفي 20 يوليو عام ١٩٥٣ أرسلت السفارة البريطانية في القاهرة تقرير وصفته “بالسرى للغاية ” لوزارة الخارجية البريطانية في لندن تناولت فيه بعض الشائعات “غير المؤكدة “، حول تحرك عدد من وحدات الجيش في اتجاه الإسكندرية ، وما يقال حول رفض عدد من ضباط الجيش المصريين إطاعة الأوامر ، وتطرق التقرير إلى احتمال قيام تمرد عسكري ، وكانت هذه هي المرة الأولى التى يشار فيها إلى مثل هذا الاحتمال ، وما سيؤدي إليه من فوضى لا محالة ، ثم توالت التقارير بعد ذلك حتى فجر يوم 23 يوليو.
نجح تنظيم الضباط الأحرار في السيطرة على الأمور والمرافق الحيوية فى البلاد ، وتضمن البيان الأول الذي أذاعة أنور السادات عضو التنظيم دعوة الملك فاروق بالتنازل عن العرش لولي عهده الأمير أحمد فؤاد ، على أن تكون إدارة أمور البلاد في يد مجلس قيادة الثورة المشكل من 13 ضابطا “هم قيادة تنظيم الضباط الاحرار”، وغادر الملك فاروق مصر يوم 26 يوليو 1952 ، وتم إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية في 1953 .
وقامت ثورة ٢٣ يوليو على ستة مبادئ مثلت عماد سياستها، وهي القضاء على الإقطاع ، والقضاء على الاستعمار ، والقضاء على سيطرة رأس المال ، و بناء حياة ديمقراطية سليمة ، وبناء جيش وطني ، وإقامة عدالة إجتماعية ، وكان من أهم قرارات مجلس قيادة الثورة إعلان الدستور المؤقت في ١٠ فبراير عام ١٩٥٣ ، وإلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية في ١٨ يونيو عام ١٩٥٣ ، و إعادة تشكيل لجنة مصادرة أموال وممتلكات أسرة محمد علي في ٨ نوفمبر عام ١٩٥٣ ، وحل جماعة الإخوان المسلمين في ١٤ يناير عام ١٩٥٤.
وتميزت ثورة ٢٣ يوليو – التي عرفت في بدايتها بالحركة المباركة – بأنها ثورة بيضاء لم ترق فيها الدماء، وبأن من قام بها جيل من الضباط والشبان ، حيث كان تشكيل الضباط الأحرار ذا طبيعة خاصة لا ينفرد باتجاه معين ولا ينتمي لحزب سياسي واحد ، فقد كان التنظيم يمثل مختلف الاتجاهات السياسية ، كما تميز بالمرونة وعدم الجمود في سياسته الداخلية لصالح الدولة ، واتجاهه نحو تنفيذ المشروعات القومية.
واكتسبت ثورة يوليو تأييدا شعبيا جارفا من ملايين الفلاحين وطبقات الشعب العاملة الذين كانوا يعيشون حياة تتسم بالمرارة والمعاناة ،وكشفت عن توجهها الاجتماعي وحسها الشعبي مبكرا عندما أصدرت قانون الملكية يوم 9 سبتمبر 1952 ، فقضت على الإقطاع وأنزلت الملكيات الزراعية من عرشها ، وحررت الفلاح بإصدار قانون الإصلاح الزراعي ، وأممت التجارة والصناعة التي استأثر بها الأجانب ، وألغت الطبقات بين الشعب المصري ، وأصبح الفقراء قضاة وأساتذة جامعة وسفراء ووزراء وأطباء ومحامين وتغيرت البنية الاجتماعية للمجتمع المصري، وقضت على معاملة العمال كسلع تباع وتشترى ويخضع ثمنها للمضاربة في سوق العمل ، وقضت على السيطرة الرأسمالية في مجالات الإنتاج الزراعي والصناعي.
ومن الإنجازات السياسية المحلية لثورة ٢٣ يوليو تأميم قناة السويس ، واسترداد الكرامة والاستقلال والحرية المفقودة على أيدي المستعمر المعتدي، والسيطرة على الحكم في مصر ، وإجبار الملك على التنازل عن العرش والرحيل عن مصر ، وإلغاء النظام الملكي وقيام الجمهورية ، و توقيع اتفاقية الجلاء بعد أكثر من سبعين عاما من الاحتلال ، وبناء حركة قومية عربية للعمل على تحرير فلسطين.
فيما تضمنت الإنجازات الثقافية ، إنشاء الهيئة العامة لقصور الثقافة وإنشاء قصور الثقافة والمراكز الثقافية لتحقيق توزيع ديموقراطي عادل للثقافة ، وتعويض مناطق طال حرمانها من ثمرات الإبداع الذي احتكرته مدينة القاهرة ، وإنشاء أكاديمية تضم المعاهد العليا للمسرح والسينما والنقد والبالية والأوبرا والموسيقى والفنون الشعبية ، ورعاية الآثار والمتاحف ودعم المؤسسات الثقافية التي أنشاها النظام السابق ، وسمحت الثورة بإنتاج أفلام من قصص الأدب المصري الأصيل بعد أن كانت تعتمد على الاقتباس من القصص والأفلام الأجنبية.
وشملت الإنجازات التعليمية، مجانية التعليم العام و التعليم الجامعي، وضاعفت من ميزانية التعليم العالي، وأضافت عشرة جامعات أنشئت في جميع انحاء البلاد بدلا من ثلاث جامعات فقط ، وأنشأت مراكز البحث العلمي وطورت المستشفيات التعليمية.
ومن الإنجازات العربية لثورة يوليو، توحيد الجهود العربية وحشد الطاقات العربية لصالح حركات التحرر العربية ، حيث أكدت للأمة العربية من الخليج إلى المحيط أن قوة العرب في وحدتهم ، يجمعهم تاريخ واحد ولغة مشتركة ووجدان واحد، وكانت تجربة الوحدة العربية بين مصر وسوريا في فبراير 1958 نموذجا للكيان المنشود.
و لعبت قيادة الثورة دورا رائدا مع يوغسلافيا بقيادة الزعيم تيتو ومع الهند بقيادة نهرو في تشكيل حركة عدم الانحياز، مما جعل لها وزن ودور ملموس ومؤثر على المستوى العالمي ، ووقعت صفقة الأسلحة الشرقية في عام 1955 والتي اعتبرت نقطة تحول كسرت احتكار السلاح العالمي، ودعت إلى عقد أول مؤتمر لتضامن الشعوب الأفريقية والأسيوية في القاهرة عام ١٩٥٨ ، إنه قدر مصر أن تكون قطب القوة في العالم العربي ، الأمر الذي فرض عليها مسئولية الحماية والدفاع عن نفسها ومساندة من حولها من شقيقاتها العربيات.
المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)