انطلقت الاحتفالات رسميا باستعادة مدينة الموصل من “الدولة الاسلامية” التي انهارت دفاعاتها امام هجوم كاسح للجيش العراقي وقوات الحلفاء، بزعامة امريكا، استمر اكثر من تسعة اشهر، وتخللته معارك دموية، ودمار شامل لمعظم معالم المدينة التاريخية.. من المقرر ان تستمر الاحتفالات لاكثر من اسبوع، ولكن اهل الموصل الذين يعيش نصفهم في مخيمات، ربما ستشارك نسبة محدودة منهم فيها، فلا توجد عائلة لم تفقد عزيزا او اكثر من ابنائها.
عمر دولة الخلافة كان قصيرا جدا في العراق، ولم يزد عن ثلاث سنوات فقد منذ اعلانها رسميا من على منبر الجامع النوري الكبير، وحتى هذا المسجد التاريخي تحول الى ركام، وانحنت مئنذته لتعانق ركامه، معلنة نهاية مرحلة وبداية اخرى.
الحرب ضد “الدولة الاسلامية” انتهت رسميا في الموصل، ولكن حروبا اخرى، ربما اكثر شراسة، واطول عمرا قد تبدأ لاحقا في الموصل نفسها، لان فراغا سياسيا يتبلور، وعجزا حكوميا في تقديم النموذج، والخدمات الافضل، واعادة الاعمار، ما زال واضحا للعيان ويثير الكثير من المخاوف، فالكهرباء لم تعد الى المناطق الشرقية من الموصل التي جرى تحريرها قبل ستة اشهر، والمدرسون الذين عادوا الى وظائفهم لم يقبضوا رواتبهم ايضا، وجامعة الموصل الشهيرة تحولت الى انقاض.
الدولة الاسلامية او داعش لن تختف باختفاء خلافتها في الموصل والرقة لاحقا ونعتقد ان امام هذه الدولة او داعش ثلاثة خيارات رئيسية في المرحلة المقبلة:
الاول: ان تحل الدولة نفسها كمنظومة اسلامية طائفية جهادية متشددة، وتقبل بالهزيمة، وهذا خيار شبه مستحيل في رأينا بالنظر الى استمرار تنظيم القاعدة الام بعد احتلال حاضنته الافغانية امريكيا عام 2001.
الثاني: ان يلجأ التنظيم الى العمل السري، والتمدد “ارهابيا”، والانتقام من كل القوى التي اسقطت دولة خلافته، ونعتقد ان هذا الخيار، اي العمل تحت الارض، هو الاكثر ترجيحا، وربما تكون اوروبا وامريكا وحلفاؤهما العرب الاهداف التي ستحتل قمة سلم الاولويات في المستقبل المنظور.
الثالث: ان تنتقل عناصر التنظيم ومن تبقى من قيادته الميدانية الى “الولايات”، او فروع التنظيم في المناطق الرخوة، او الدول الفاشلة في اليمن، وافغانستان، وليبيا، ومصر، ومنطقة الساحل الافريقي، والصومال، بالاضافة الى البقاء في العراق وسورية ايضا، ومحاولة اتخاذ هذه الولايات الرخوة مقرات جديدة، ونقاط ارتكاز، ومنطلقات للتحرك، وشاهدنا مؤشرات في هذا الصدد في افغانستان واليمن وجنوب الفلبين وجنوب تايلند، علاوة على هجمات في اوروبا.
ربما لم يستطع هذا التنظيم الحفاظ على “دولة خلافته” لمدة اطول، ولكنه حافظ على قوة عقيدته المتطرفة والدموية، واستطاع نشرها على نطاق واسع في اوساط حواضنه الشبابية المُحبطة (بضم الميم)، و”حواضنه” المهمشة، واي استراتيجية بعيدة المدى لمواجهته يجب ان تضع هذا الامر في عين الاعتبار، وان كنا نشك في وجودها اساسا.
مهرجانات الفرح بالنصر ستستمر حتما، فالانجاز كبير بكل المقاييس، وجاء بعد تضحيات كبيرة، وبشرية خصوصا، ورغم كل الشكوك والمخاوف، ما زلنا نأمل في بزوغ فجر “عراق جديد”، غير “العراق الامريكي” تسوده المساواة والعدالة والتعايش والاستقرار والحكم الرشيد.