اختتمت أعمال القمة الدورية للمجلس الأوروبي، التى انعقدت فى بروكسل طوال اليومين الماضيين، والتى حرص من خلالها قادة وزعماء الدول الأوروبية على إظهار الاتحاد متماسكاً موحداً رغم الخلافات ومظاهر التفتت الناتجة عن تصويت البركسيت وخروج بريطانيا.
كان من أبرز القرارات، التى خرجت بها القمة، إعادة انتخاب البولندي دونالد تاسك رئيساً للمجلس الأوروبي للفترة من الأول من يونيو 2017 حتى 30 نوفمبر 2019، وذلك على الرغم من معارضة حكومة بلاده.
كما ناقشت القمة، الخطة التى اتفق عليها القادة الأوروبيون فى قمة مالطا الشهر الماضي للسيطرة على تدفق المهاجرين إلى أوروبا، وخاصة الهجرة إلى إيطاليا عبر السواحل الليبية، وذلك مع تزايد المخاوف من ارتفاع أعداد المهاجرين إلى أوروبا مع تحسن الطقس، حيث سجّلت أعداد المهاجرين وطالبى اللجوء من ليبيا مطلع العام الجاري معدلات مرتفعة عن العام الماضي.
وتناولت القمة أيضا سبل تسريع النمو الاقتصادي الأوروبي، والسياسة التجارية للاتحاد وتعميق العلاقات التجارية مع دول العالم، ومشاريع فى مجال الدفاع، فضلاً عن تطور الأوضاع فى غرب البلقان التى تشهد توتراً ملحوظاً مثيراً للقلق.
وعقد القادة الأوروبيون أمس الجمعة اجتماعاً غير رسمي على مستوى الدول الـ27، أى بدون بريطانيا، للتحضير لقمة روما فى 25 الشهر الجاري، المخصصة للاحتفال بالذكرى الستين لمعاهدة روما المؤسسة للاتحاد الأوروبي، وأيضا لبحث مستقبل الاتحاد، فى إطار التصورات والسيناريوهات التى قدمتها المفوضية وغيرها من المؤسسات الأوروبية.
وخلال الاجتماع، دعت ألمانيا وفرنسا دول الاتحاد الأوروبى إلى قبول سيناريو “أوروبا بسرعات متفاوتة” بهدف تجاوز أزمة بريكست.
وكان رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر قد طرح مؤخراً فيما سُمى بـ”الكتاب الأبيض” 5 سيناريوهات لمستقبل الاتحاد الأوروبي، الأول استمرار الاتحاد الأوروبي، ولكن بسيادة وسلطات أقل على الدول، والثاني استمرار الاتحاد فى صورة “سوق مشترك” ليس أكثر، والثالث “أوروبا بسرعات متفاوتة” وهو المبدأ الذى يتيح لبعض الدول الأعضاء المضى قدماً فى نقاط معينة بصورة أسرع من بلدان أخرى، والرابع “سلطات أقل بكفاءة أكثر” وهو أن يكون للاتحاد سلطات أقل على الدول الأعضاء، ولكن يتم العمل عليها بشكل أكثر كفاءة، أما السيناريو الخامس “أوروبا فيدرالية” وهو أن تكون أوروبا كلها بمثابة دولة واحدة فيدرالية بسلطات أكثر للاتحاد وانصهار للدول فى السياسات وتوحيدها.
وأكدت القيادة الألمانية والفرنسية على أن ثمة مجموعات لا تسير بنفس السرعة، خاصة بعد البريكسيت. وهو ما يعنى أن إيقاع الدول الأوروبية ليس واحداً ومتجانساً، وبالتالى فلا بأس من التقدم وفق مجموعات، وليس انتظار السير الجماعى لـ 27 بلداً وفق إيقاع واحد.
ويأتى ذلك تأكيداً لما اتفق عليه قادة كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا فى قمة مصغرة استضافتها مدينة فرساى الفرنسية الأسبوع الماضى، حيث أكد القادة الأربعة أن سيناريو “أوروبا بسرعات متفاوتة” أفضل السيناريوهات المطروحة غير أن هذا السيناريو يثير جدلاً لدى بعض الدول حيث يتخوف البعض من أن يؤدي ذلك إلى حصول مواطني الاتحاد الأوروبي على حقوق مختلفة بناء على ما إذا كان بلدهم جزءاً من “تحالفات الراغبين”، كما أنه قد يثير مخاوف بعض الدول من أن تصبح أعضاء من الدرجة الثانية فى الاتحاد مثل مجموعة فيزيجراد (المجر وبولندا والجمهورية التشيكية وسلوفاكيا) التى عبرت مؤخراً عن معارضتها الشديدة لسياسة الهجرة التى يتبعها الاتحاد الأوروبي.
وعبرت رئيسة الوزراء البولندية بياتا شيدلو عن رفضها للحديث عن “أوروبا بسرعات متفاوتة”، معتبرة أن ذلك “يهدد سلامة أراضي” الاتحاد الأوروبي.
ويرى المراقبون أن المرحلة التى تشهدها القارة الأوروبية حاليا تمثل مرحلة فارقة فى تاريخها، فمن ناحية أدى انسحاب بريطانيا إلى تراجع مكانة الاتحاد الأوروبي وإضعاف قدرته على العمل ككيان موحد على الساحة العالمية، وهو ما استلزم من القادة الأوروبيين العمل على تبنى موقف موحد وإعادة صياغة المشروع الأوروبي للحفاظ على تماسك الاتحاد ووحدته.
من ناحية أخرى، يثير تصاعد الأحزاب اليمينية الشعبوية مخاوف واسعة داخل القارة الأوروبية، خاصة أن هذا العام يشهد انتخابات حاسمة فى أهم دول الاتحاد الأوروبي، حيث تعقد هولندا فى الخامس عشر من الشهر الجارى انتخابات تشريعية، كما تجرى الانتخابات الرئاسية فى فرنسا الشهر القادم، بينما تشهد ألمانيا انتخابات تشريعية فى سبتمبر المقبل.
ويسود القلق من إمكانية تصاعد الأحزاب اليمينية المناهضة للاتحاد الأوروبي ووصولها للحكم، خاصة أن استطلاعات الرأى تظهر تصاعداً ملحوظاً فى شعبيتها لاسيما الجبهة الوطنية فى فرنسا بزعامة مارين لوبن.
من ناحية ثالثة، فإن وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة وتصريحاته المهاجمة لأوروبا ووصفها بالقارة العجوز وانتقاده لحلف “الناتو” الذى يرى أنه “منظمة عفا عليها الزمن”، كل ذلك قد تسبب فى ازدياد وتيرة القلق داخل الأوساط الأوروبية والسعى لإيجاد شراكات جديدة مع شركاء آخرين مثل كندا وآسيا.
فى ضوء ما سبق، يتفق المراقبون على أن الاتحاد الأوروبي يواجه خلال المرحلة الراهنة عدد من التحديات الجادة التى تهدد مستقبله واستمراره، وهو ما سيلزم الشركاء الأوروبيون العمل معا فى الفترة القادمة لتعزيز المصلحة المشتركة وإعادة تشكيل المشروع الأوروبي على نحو يحافظ على تماسك الاتحاد وقوته بعد أزمة البريكست.
المصدر: أ ش أ