قبل نحو سبعين يوما من الاستحقاق الرئاسي الفرنسي، تسود حالة من الارتباك داخل المشهد الانتخابي نتيجه تسارع وتيرة المستجدات والتقلبات التي تطرأ على الساحة السياسية الفرنسية يوما تلو الآخر، والتي أدت بدورها إلى تغير موازين القوى السياسية في البلاد على نحو لم يشهده الفرنسيون من قبل.
فقبل بضعة أشهر فقط، كان يسود اعتقاد لدى الفرنسيين أنهم سيشهدون في الانتخابات المقبلة التي ستجرى الجولة الأولى منها في 23 (أبريل) وجولة الاعادة في السابع من مايو المقبل المنافسة نفسها التي وقعت عام 2012 بين الرئيس اليميني السابق نيكولا ساركوزي والاشتراكي الحالي فرنسوا أولاند، غير أن المشهد الراهن يبدو شديد البعد عن هذا الاعتقاد، فالشخصيات التي كانت تحتل المشهد السياسي منذ عقود تهاوت الواحدة تلو الأخرى خلال الانتخابات التمهيدية وسيطر على المشهد الانتخابي الحالي مرشحون جدد غير تقليديين أعلنوا قطيعة تامة مع السياسات السابقة وأخذوا في استعراض برامجهم المتجددة والمناهضة للنظام.
ومن أبرز النماذج لهؤلاء المرشحين وزير التربية السابق بونوا هامون الذي فاز على نحو غير متوقع في الانتخابات التمهيدية للاشتراكيين ملحقا هزيمة مفاجئة برئيس الوزراء السابق مانويل فالس الذي دفع ثمن السياسات الحكومية التي جسدها طوال عامين. ويمثل هامون التيار اليساري في الحزب الاشتراكي ومعروف بمواقفه المنحازة إلى اليسار المتجذر، وهو من أكثر المنتقدين للرئيس أولاند والمعارض له في العديد من سياساته.
كما جاء فوز فرنسوا فيون في الانتخابات التمهيدية لليمين في نوفمبر الماضي مفاجأة داخل الأوساط السياسية التي كانت تتوقع فوز رئيس الوزراء الأسبق آلان جوبيه.
إضافة لما سبق، تتغير موازين القوى داخل المسرح السياسي الفرنسي يوما تلو الآخر حيث تتصاعد وجوه وتتوارى وجوه أخرى. فعلى سبيل المثال بعد أن كان المرشح اليميني فرنسوا فيون هو الأوفر حظا للفوز بالانتخابات الرئاسية طوال الشهرين الماضيين، جاءت فضيحة الفساد الخاصة باتهامه بخلق وظائف وهمية لأفراد عائلته لتضعه أمام اختبار صعب قد يطيح بآماله وآمال اليمين في الفوز بالسباق الرئاسي واستعادة الإليزيه بعد خمس سنوات من حكم الاشتراكيين.
وقد أثبت فيون أن توظيفه لزوجته وابنيه قد تم وفقا للقانون، ومع ذلك أقر بأن هذه الممارسات تصدم الرأي العام وقدم اعتذاره إلى الفرنسيين لكونه وظف أفرادا من عائلته كمساعدين برلمانيين، معلنا استمراره في خوض السباق وعدم وجود “خطة بديلة”.
وأظهرت استطلاعات الرأي عدم اقتناع ثلثي الفرنسيين بتبريرات فرنسوا فيون وأن 70% منهم يريدون أن يترك السباق الانتخابي.
وتضع هذه القضية المعسكر اليميني في مأزق صعب. فمن ناحية استمرار فيون كمرشح لليمين في الانتخابات الرئاسية سيؤدي حتما إلى إضعاف فرص اليمين في الفوز واسترجاع الرئاسة. من ناحية أخرى في حالة موافقة فيون على الانسحاب من السباق الانتخابي فإن هذا الوضع سيعود خلط الأوراق وسيحدث انقسامات إضافية لن تحسمها انتخابات تمهيدية جدیدة لا یتوافر الوقت لتنظيمها في الوقت الذي رتب فيه المرشحون الآخرون أوضاعهم وانطلقوا في حملاتهم ومهرجاناتهم الانتخابية.
وقد أدت فضيحة الفساد التي طالت فيون إلى تصدر مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن المشهد الانتخابي واحتلالها المرتبة الأولى في استطلاعات الرأي. وأطلقت لوبن الاسبوع الماضي برنامجها الانتخابي في مدينة ليون تحت شعار “باسم الشعب” وقدمت نفسها على أنها “مرشحة الشعب” في وجه مرشحي المال سواء من الیمین أو الیسار.
وأعلنت لوبن عزمها استعادة السيادة الوطنية لبلادها من خلال الخروج من منطقة اليورو والعودة إلى العملة الوطنية “الفرنك” كما وعدت بالانسحاب من منطقة شنغن للحدود المفتوحة وفرض قيود على دخول المهاجرين البلاد، وفي حالة عدم حدوث ذلك ستدعو بلادها إلى إجراء استفتاء للخروج من الاتحاد الأوروبي، فضلا عن عزمها الخروج من القيادة العسكرية لحلف الناتو.
بالتزامن مع ذلك صعد نجم المرشح المستقل ايمانويل ماكرون بصورة ملحوظة خلال الأسابيع الماضية، وبالأخص مع تراجع شعبية فيون، وأصبح يحتل المركز الثاني في استطلاعات الرأي بعد مارين لوبن. ويقدم ماكرون نفسه كمرشح وسطي لا ينتمي إلى اليمين أو اليسار أو أي تيار سياسي تقليدي بل يشق طريقه برفقة مسانديه ويبلور أفكارا جديدة أصبحت تلقى صدى كبيرا في المجتمع الفرنسي.
ونجح ماكرون في استخدام ورقة المهاجرين واللاجئين التي تشكل وعاء انتخابيا مهما بفرنسا حيث أثبت مرات عديدة في تصريحاته أن الهجرة تحمل كفاءات. كما أنه المرشح الرئاسي الوحيد الذي أشاد بعناية المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل باللاجئين وذكر عنها إنها من أنقذت كرامة أوروبا.
في ضوء المشهد السابق ، يبدو من الصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الانتخابات الرئاسية القادمة، فتوجه الناخب الفرنسي سيتحدد وفقا لمدى التطورات التي ستطرأ على الساحة السياسية خلال الشهرين القادمين وهو ما يترك المجال مفتوحا أمام العديد من الخيارات. غير أنه وفقا للمعطيات الحالية يرجح فريق واسع من المراقبين فوز ماكرون، فاتجاهه الوسطي وتصاعد شعبيته لدى الشارع الفرنسي تعزز من فرصه للتقدم بقوة نحو قصر الإليزيه.
المصدر : وكالة أنباء الشرق الأوسط ( أ ش أ )