في صفحة الرأي بجريدة القدس نطالع مقالا تحت عنوان ” على هامش وعد بلفور .. قراءة في تحديات القرن الكبري”
حيث كتب صالح عوض يقول “قرن كامل من التحديات والصراعات ولم يستطع الغرب ان يقضي على طموحات امتنا في حياة كريمة ولم يستطع أن يحقق أمن الجانب الاسرائيلي، ولم يستطع أن يقضي على الشعب الفلسطيني.. ولكنه أيضا قرن وقف بتحدياته عنيدا ضد تمكيننا من استعادة فلسطين أو تحقيق وحدتنا وإنجاز نهضتنا.. فماهي قصتنا مع القرن.؟
لم يكن القرن العشرون عاديا في تاريخ أمتنا.. كان الأكثر عنفا وخطورة في التدخل بشئون بلداننا وسياساتنا والأكثر عنفا في الإملاءات الخارجية علينا.. قرن تمت فيه أبشع المحاولات لتغيير هويتنا، وتغيير معالم حضارتنا، وانتزاع الارض من تحت اقدامنا، وصناعة كيانات تابعة وهزيلة تمنع النهضة وتشرعن الانصياع للغرب ومؤسساته.
قرن من الفوضى “الخلاقة” التي انطلقت في عام 1916 بعد فشل الثورة العربية في انجاز دولة عربية كبرى في المشرق العربي وبالتحالف مع الانجليز للانفصال عن السلطنة العثمانية.. فوضى بثلاثية مقيتة تقدمت دفعة واحدة متكاملة، سايكس بيكو “التجزئة” واحتلال بريطانيا لفلسطين انتدابا خاصا ووعد بلفور الذي صوت لصالحه البرلمان البريطاني وأصبح أحد عناصر المشروع الغربي..
وبضربة واحدة سقطت السلطنة العثمانية، وتجزأت بلادنا العربية، لا سيما بلاد الرافدين والشام، وتكرس التغريب في مناهج التربية والتعليم، والقوانين والثقافة، وأقيم كيان اسرائيلي على أرض فلسطين.. وفي المغرب العربي والجزائر في القلب منه كان الاستعمار الفرنسي يرسي آخر برامجه ظنا منه ان توقف المقاومات الجزائرية المسلحة بحلول سنة 1916 الى هزيمة تاريخية يترتب عليها فرض واقع جديد بمزيد من الاستيطان لتحويل الجزائر جزءا من دولة فرنسا..
أدت الخطة الاستعمارية الفرنسية البريطانية مراحلها المتتالية خلال ثلثي القرن بكامل التركيز لاقامة جسد بشري غريب عن المنطقة يكون امتدادا ثقافيا للغرب ويقوم بمهمات استراتيجية للمشروع الغربي في المنطقة وتولت الادارات الامريكية بشكل شبه كامل المسئولية في ثلث القرن الاخير.. فكان الكيان الاسرائيلي في القلب من المنطقة العربية قرارا غربيا يمسك بمقاليده المركز الغربي حسب تنقله ويقوم بفصل شرق العرب عن غربهم وافريقهم عن آسيويهم..
فكان الجهد الاوروبي شرقيه وغربيه يتجه للاسراع في انجاز الكيان الاسرائيلي على ارض فلسطين بإمداده بالعدة والعتاد بل وبالخبراء العسكريين وبالمال وسخروا لذلك المؤسسات الدولية التي بنوها في اعقاب الحرب العالمية الثانية.. وادرك الغربيون ان النجاح في هذه المهمة يستدعي نشاطا دؤوبا على محاور المشروع الاخرى: تكريس التجزئة والتفرقة في الامة وخلق مشكلات بينية فيما بينها، وفرض قوانين التغريب والتبعية عليها والسيطرة على ثرواتها..
هذا من جهة، كما ان قوة الجانب الاسرائيلي تمنحه دورا سيكون ضروريا في انجاح محاور المشروع الاستعماري الاخرى.. وهكذا اصبحت قضية فلسطين مركزية بالنسبة لقضايا لعرب جميعا والمسلمين قاطبة.
على مدار قرن كانت المقاومة الفلسطينية للتحدي الغربي تلقائية لم تتوقف.. ومن ثورة الى ثورة ومن مقاومة الى مقاومة كان الفلسطينيون يبددون حجج اليهود وادعاءاتهم الدينية والايديولوجية فلم تكن فلسطين كما ادعوا ارضا بلا شعب لتصبح لشعب بلا ارض.. بل اثبت الفلسطينيون للعالم كله ان لهم مدنا على الشواطىء جميلة وعواصم عتيقة ومعالم حضارة راسخة لم تكن لسواهم في ذلك الوقت..
ولقد كانت فلسطين احدى الساحات المهمة في الامة تعج بالصحف والمسارح والنشاط السياسي والثقافي.. فكانت المقاومة متعددة الاشكال ثقافيا وعسكريا وحراكا شعبيا هي الاسلوب المباشر والناصع في تصرف الفلسطينيين تجاه الاستعمار البريطاني..
على طول الجغرافيا العربية كانت المعركة محتدمة فجاءت ساعة الصفر في الاعلان عن اقامة الدولة العبرية في مرحلة عربية هشة حيث كان العرب على المستوى السياسي في المشرق العربي يسيرون ضمن التوجه الاستعماري الامر الذي دفع الجامعة العربية الى رفض اعتبار الهيئة العربية العليا الفلسطينية ممثلة للشعب الفلسطيني والتي سعت الى الاعتراف بها لتملأ شغور الوضع القانوني والاداري لحظة انسحاب بريطانيا..
وبعد ان تقدمت العصابات الصهيونية لاحتلال المواقع والقيام بمجازر متعددة في يافا والرملة ودير ياسين وقبية واكثر من مكان تحركت الجيوش العربية من سبع دول بجيوش ضعيفة محدودة العدد والعدة لتواجه جيشا مدربا وخبراء عسكريين بأسلحة متطورة وبإمكانيات فائقة.. فكانت هزيمة الجيوش العربية عبارة عن تكريس لقيام “دولة اسرائيل” على ارض فلسطين وطرد معظم اهلها خارج فلسطين او الى غزة والضفة الغربية فيما كان العرب في المغرب العربي يقبعون تحت نير الاستعمار الفرنسي مشلولين عن القيام بأي فعل مؤثر لإيقاف احتلال فلسطين.
كان الشعب الفلسطيني من ثورة البراق الى ثورة القسام والاضراب الكبير والثورة الكبرى والهيئة العربية العليا وجيش الجهاد المقدس رغم كل ما سبق يوجه ضربات قاسية للاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية وكاد في بعض الاحيان ان يصل الى ذروة الانتصار لولا التدخل الخارجي.
من العبث الحديث عن فلسطين في أية مرحلة من المراحل في غياب رؤية ما كان عليه الواقع العربي في تلك المرحلة.. فالحال في فلسطين هو انعكاس لضعف العرب او قوتهم.. ومن هنا تأتي الجدلية التي تجعل فلسطين جوهر قضايا العرب ذات الصلة بكل قضاياهم ليس فقط على الصعيد الروحي بل وأيضا على الصعيد الاستراتيجي الامني والسياسي والاقتصادي..
لقد تكبل المشرق العربي في النصف الثاني من القرن العشرين بالدولة القطرية حتى وإن كانت شعاراتها قومية فهي أسوأ وصفة ابتليت بها أمتنا حيث بدأت الحسابات القطرية العاجزة والخطط القطرية الفاشلة في التنمية مما فرض على الدولة القطرية حالة التبعية والتي تدور حول عصبها ألا وهو التخلي عن أهم عناصر التكوين الحضاري للبلد وهو انتماؤه لأمة وهوية حضارية.
لم يكن تشتت الفلسطينيين إلا باعثا جديدا لجمع عناصر القوة لانبعاث جديد بمقاومة جديدة بصيغ جديدة وإن كانت الخطورة قد ركبت أمواج التحدي الوجودي للشعب الفلسطيني.. وجد الفلسطينيون فرصة لفعل جديد عندما تمكنت الجزائر من كسر المعادلة وطردت الاستعمار وأبرزت القيم الثورية فكانت الجزائر بالنسبة للفلسطينيين أكثر من معين ومساند مادي وسياسي فلقد كان لانتصار الجزائر بالنسبة للفلسطينيين قيمة معنوية مرجعية.. وبحيوية فائقة أدرك الفلسطينيون أن ضمانة استمرار الوجود الاستعماري الاستيطاني في أرض فلسطين يستند الى تكريس مقولة أن فلسطين لا شعب لها ولا هوية حضارية خاصة بها.. هنا كان لابد من تثبيت الوجود بأنهم شعب له ثقافة وتاريخ وانتماء حضاري.
دفع الفلسطينيون بعد انطلاق كفاحهم المعاصر 1965 باستمرار الفاتورة سريعا لكل تحول سياسي في المنطقة، فعندما وافق النظام العربي على مشروع روجرز 1968 كان عليهم ان يدخلوا في احداث الاردن.. وعندما حقق العرب انتصارا جزئيا في حرب اكتوبر1973 كان عليهم ان يدفعوا الثمن في لبنان بحروب طائفية استهدفت وجودهم الانساني والثوري.. وعندما انتصرت الثورة الايرانية 1979 التي كانت تربطها بالمقاومة الفلسطينية روابط صداقة قوية تدخل الغربيون ليصبح على الفلسطينيين ان يدفعوا الثمن الاوفر باخراجهم من لبنان 1982 برضى وبمشاركة عربية رسمية.
تقف مقاومة الفلسطينيين الآن على مفترق طرق التسوية او التطور بكل انواعه.. ومن الواضح ان التسوية عادت عملا عقيما ضيع الوقت وبدد الطاقة وقدم غطاء موضوعيا للاستيطان.. أما المقاومة بأشكالها فهي ترغم الخصم على العودة الى اسئلته الوجودية الاولى.. ورغم ان هناك اضطرابا في الاداء الفلسطيني لأسباب ذاتية وموضوعية الا ان عناصر القوة جميعا متوفرة لإدارة مقاومة بحجم التحدي..
لقد وصل الفلسطينيون الى استنتاجات حاسمة وخطيرة تجلت في وعي وإقدام اولئك الشباب الذين فجروا انتفاضة القدس.. وهي تنبيء بتنامي جيل جديد بميزات خاصة ووعي خاص ورؤية خاصة لطبيعة الصراع مفادها أن العمل المقاوم الشامل والذي لا يقبل بالحلول الوسط مع المحتل هو السبيل الجديد أمام طلائع الشعب الفلسطيني.
ووصل الجانب الاسرائيلي الى حالة اضطراب شديدة وهو يعيش ازمات حقيقية تتمثل في خوفه واحساسه بأن المستقبل يفتقد مبررات استمراره فهو قد فشل في انشاء مجتمع كما فشل في جلب الامن والسيطرة على الوضع فيما يحاول تقديم الوهم بأنه يستفيد من ضعف بعض الدول القطرية وينشر في الاعلام انه في حالة رضى وتنسيق معها بل وتحالفات ضد اخطار تهدد وجوده ..
الخطورة الآن على نهايات القرن، تتجدد المحاولة الغربية لتبديد الثروة العربية والدولة العربية القطرية وزجها في معارك اثنية.. فلئن كانت الثورة العربية الكبرى في بدايات القرن هي مفتاح سايكس بيكو واحتلال فلسطين فلقد اصبح الربيع العربي على نهاياته هو مفتاح بروز دول طائفية وعرقية وشطب الملف الفلسطيني.. مع تغيرات موضوعية في المواضيع والاساليب.
اجل، ان عناصر التحدي الغربي لنا لا زالت كما هي وان كانت ترجماتها تتشكل بصور عديدة ومتطورة.. ومن هنا اصبح لزاما على النضال الفلسطيني ان يتجدد وان تتجدد اطروحات العمل العربي انطلاقا من بؤر المقاومة والوعي والضمير الجمعي الذي لم يخدش.. والانتصار العظيم هو مجموع الانتصارات الصغيرة.. تولانا الله برحمته.
المصدر: صحيفة القدس