للشهر الرابع على التوالى ، تتواصل “الهبة الجماهيرية” أو كما يحلو لكثير من الفلسطينيين تسميتها بـ”هبة القدس” أو “انتفاضة القدس” رغم “القبضة الحديدية” لجيش الاحتلال الإسرائيلي واستمرار سياسة الإعدامات الميدانية للشبان الفلسطينيين لمجرد الاشتباه تحت دعاوى محاولة طعن أو دهس جنود في الضفة الغربية والقدس، وكذلك إطلاق النار على المحتجين الفلسطينيين المتضامنين مع الهبة في مناطق التماس على حدود قطاع غزة.
عوامل عديدة فجرت الهبة الجماهيرية الحالية على رأسها حرق عائلة دوابشة من قرية دوما بنابلس على يد يهود متطرفين في يوليو الماضي، واستمرار انسداد الأفق السياسي نتيجة التعنت الإسرائيلي وتواصل الاستيطان والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى المبارك من قبل المستوطنين المتطرفين بحماية شرطة الاحتلال ومحاولات تقسيمه زمانيا ومكانيا بين المسلمين واليهود.
ويرى محللون وسياسيون فلسطينيون أن الهبة وضعت إسرائيل في موضع صعب أمنيا وأخلاقيا وسياسيا، وكشفت هشاشة الجبهة الإسرائيلية الداخلية والوجه الإرهابي لإسرائيل وشجعت الحملات الدولية لمقاطعتها وأكدت استحالة العيش المشترك مع الاحتلال.
وأشاروا إلى أن أكثر ما يقلق سلطات الاحتلال في المرحلة الحالية هو الانتقال من مرحلة الطعن والدهس إلى العمليات المسلحة ، وأن الوسائل العقابية التي يستخدمها الاحتلال حاليا في التضييق على أهالي منفذي العمليات أو سكان القدس والضفة لن تجدي نفعا في اللحظة التي تبلغ فيها الانتفاضة مرحلة العمليات المسلحة بشكل أكبر.
ويعلق الناطق باسم حركة “فتح” فايز أبو عيطة على “الهبة الجماهيرية” الحالية قائلا لوكالة أنباء الشرق الأوسط إنها “رد طبيعي لتعنت سلطات الاحتلال وعدم رغبته فى الحل وقيامه بتعقيد كل الأمور وانتهاكاته وجرائمه المستمرة بحق الشعب الفلسطيني”.
وأضاف: “هذه الهبة مطلوبة في ظل استمرار حكومة الاحتلال في الاستيطان واحتلال الاراضي الفلسطينية وانتهاكاتها المتواصلة بحق المقدسات وارتكابها الجرائم بحق شعبنا من قتل واستيطان ومصادرة الأراضي وتنكرها لاستحقاقات عملية التسوية”.
ووفقا لوزارة الصحة الفلسطينية ، فإن عدد ضحايا الهبة التي اندلعت في مطلع أكتوبر الماضي وصل حتى الآن إلى 156 شهيدا وحوالي 16 ألف جريح في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة. في المقابل تشير الإحصاءات الإسرائيلية إلى مقتل 27 إسرائيليا وإصابة نحو 350 آخرين جراء عمليات الطعن والدهس واطلاق النار.
وقال الناطق باسم فتح فايز أبو عيطة :”الهبة الشعبية جزء من المقاومة الفلسطينية التي ستستمر من أجل أن يحصل شعبنا على حقوقه كاملة في الحرية والاستقلال واقامته دولته وعاصمتها القدس” .
وأردف:”نسعى للحفاظ على الهبة الجماهيرية في شكلها الحالي كأحد أوجه المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي ولا نسعى بأي حال من الأحوال إلى جعلها انتفاضة مسلحة لتفويت الفرصة على الاحتلال”.
وبحسب “مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات”، يرسم المشهد الحالي للمواجهات الدائرة بين شباب فلسطين العزل وبين قوات الاحتلال المدججين بالسلاح ثلاثة سيناريوهات لكل واحد منها مقوماته: الأول: تقويض الانتفاضة في مهدها ومحاصرتها وإطفاء جذوتها.
ويرى المركز أنه من الصعب تحقيق هذا السيناريو دون إشراك أجهزة أمن السلطة في الضفة، وقد يعزز ذلك إعادة إحياء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية بشكل طارئ، وإعطاء السلطة بعض المكاسب كإطلاق سراح بعض الأسرى.
وأضاف أن السيناريو الثاني هو “المراوحة” في الهبات صعودا وهبوطا دون تطويرها لتتحول إلى انتفاضة حقيقية واسعة.. بمعنى أن تعجز قوى المقاومة عن ترشيد مسار الانتفاضة وتطويرها فتتحول إلى هبة شعبية محدودة الزمان والانتشار، وتفتقد استراتيجية واضحة وقيادة قادرة على حمايتها وتأمين حاضنة عربية وإسلامية لها، وبالتالي تستمر الجماهير في التفاعل مع الأحداث صعودا وهبوطا حسب حجمها.
أما السيناريو الثالث ، فهو اتساع رقعة المواجهة لتأخذ شكلا أقرب إلى الانتفاضة، ومما يعزز هذا السيناريو ارتفاع وتيرة الهجمات وتنوعها، وإدراك القوى الفلسطينية بأن الانتفاضة هي السبيل الأمثل للخروج من حالة الجمود الراهن، غير أن التحدي الأكبر هنا هو القدرة على توسيع رقعة المواجهات لتشمل كافة مناطق الضفة الغربية.
وقال مركز الزيتونة “بشكل عام، يصعب ترجيح أحد السيناريوهات الثلاثة، وتكاد السيناريوهات في هذه اللحظة تملك حظوظا متقاربة، غير أن قدرة الانتفاضة على الصمود والاستمرار والانتشار قد يرجح السيناريو الثالث”.
وتتباين الرؤى الإسرائيلية تجاه “الهبة” الفلسطينية بين فريق يرى أنها مجرد “عمليات فردية” لا علاقة لها بالتنظيمات الفلسطينية ومنفذوها شبان يائسون ومحبطون وغالبيتهم من العاطلين عن العمل ، وفريق آخر يعتبرها “موجة إرهاب”، وثالث يصفها بأنها “انتفاضة محدودة”.. غير أن التخوف الأكبر لدى أجهزة الأمن الإسرائيلية هو تحولها إلى العمل المسلح المنظم.
وكشفت صحيفة “هآرتس” العبرية أن جهاز الأمن العام “الشاباك” لاحظ مؤشرات على توجه فلسطينيين إلى تشكيل خلايا مسلحة في أرجاء الضفة، وبالتالي تبدي قيادة جيش الاحتلال مخاوفها من إمكانية انتقال المقاومين الفلسطينيين إلى تنفيذ الهجمات المسلحة على نطاق واسع.
وقال معلق الشؤون العسكرية بـ “هآرتس” عاموس هارئيل إن الشروع في تشكيل خلايا مسلحة ينقل انتفاضة القدس إلى مرحلة جديدة تماما، على اعتبار أن جميع العمليات التي نفذت حتى الآن تمت بشكل فردي من دون تدخل التنظيمات الفلسطينية.
ووفق هارئيل، فإن قيادات الجيش الإسرائيلي تقر بعجزها عن ابتكار وسائل يمكن أن تسهم في إحباط العمليات ذات الطابع الفردي قبل تنفيذها، مشيرا إلى وجود خيبة أمل من نتائج عمليات رصد ومتابعة حسابات الفلسطينيين على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ إنها لم تنجح حتى الآن في توفير معلومات تساعد في إحباط عملية فردية خطط لها شاب فلسطيني.
وأشعلت “الهبة الجماهيرية” في الضفة والقدس الصراع السياسي المحتدم في إسرائيل بين حكومة بنيامين نتنياهو والمعارضة.
وكان التطور الأبرز في هذا الخصوص وصف زعيم المعارضة الإسرائيلية ورئيس حزب العمل اسحاق هرتصوغ الهبة بأنها “انتفاضة ثالثة”.
وقال هرتصوغ خلال جلسة لكتلة “المعسكر الصهيوني” المعارضة في الكنيست التي ترأسها مساء الاثنين “ان تدهور الأوضاع الأمنية ليس بمثابة موجة ارهاب وانما انتفاضة ثالثة” . مشيرا الى انه كان قد حذر من اندلاعها قبل أشهر.
واتهم زعيم المعارضة الإسرائيلية نتنياهو بفقدان السيطرة . وقال “انه يخشى من اليمين المتطرف”.
وفي مقال تحليلي بصحيفة “معاريف” ، قال الكاتب “ران أدليست” إنه بعد انقضاء ثلاثة أشهر من موجة الهجمات الفلسطينية ضد الإسرائيليين لم يتحقق الهدوء الذي يبحث عنه الإسرائيليون، لأن استخدام الحكومة والأجهزة الأمنية أسلوب هدم منازل منفذي العمليات الفلسطينية والانتشار العسكري المكثف بالشوارع الفلسطينية، لم يؤديا إلا إلى استمرار التدهور الأمني.
وزاد أنه حان الأوان لوضع القيود على الأصابع الضاغطة على الزناد من صناع القرار الإسرائيلي، لأن تهدئة الميدان هي الوسيلة الأكثر نجاعة في التعامل مع “هذه الموجة الدامية من العمليات الفلسطينية”.
وأشار إلى أنه بعد مرور ثلاثة شهور من عمليات الشباب الفلسطيني، اتضح جليا أمام الإسرائيليين أن موجة العمليات ضدهم لا تتوقف، رغم سياسة الاغتيالات والتصفية للمنفذين، وحتى سياسة هدم المنازل أخفقت في القضاء على العمليات، بل إن هذه الأساليب نجحت في شيء واحد فقط، يتمثل بزيادة روح الانتقام لدى الفلسطينيين، وهو ما يرفع من مستوى التدهور الأمني، ويضاعف المخاطر على حياة الإسرائيليين.
ودعا أدليست صناع القرار السياسي والعسكري لضبط النفس أكثر في التعامل مع هذه الموجة، وعدم الانجراف خلف سياسة قتل منفذي العمليات والعمل قدر الإمكان على وقفها، كما دعا لوقف التحريض الرسمي الذي يتلقاه الإسرائيليون من الجهات الحكومية، مطالبا في الوقت نفسه بتحقيقات جادة ضد المعتدين على منفذي العمليات الفلسطينية الذين يتم إطلاق النار عليهم وإصابتهم وطرحهم أرضا.
وأظهر استطلاع للرأي العام، نشره موقع “واللا” الإخباري العبري مؤخرا أن أغلبية الإسرائيليين فقدوا الشعور بالأمن في أعقاب “انتفاضة القدس” وأن شعبية حزب الليكود بزعامة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، قد تراجعت بشكل ملموس.
وبحسب استطلاع “واللا”، فإن 61% من الإسرائيليين يشعرون بأن مستوى أمنهم تضرر أو تضرر جدا منذ بدء الهبة الفلسطينية الحالية، بينما قال 29% إن مستوى أمنهم لم يتضرر كثيرا، وفقط 9% اعتبروا أن مستوى أمنهم لم يتضرر أبدا.
ورأى 71% أن الحكومة الإسرائيلية لم تتعامل مع تصعيد الوضع الأمني كما هو متوقع منها، بينما قال 19% إنها تتعامل مع الوضع بالشكل الملائم.
المصدر : أ ش أ