بعد ساعات من انعقاد أول جلسة لمجلس النواب اللبناني، بعد انقطاع دام عاما، وسط فراغ رئاسي وحكومة تسيير أعمال، اهتزت ضاحية بيروت الجنوبية بتفجيرين انتحاريين داميين، خلفا عشرات القتلى والجرحى.
بحسب معلومات عن مصادر لبنانية أواخر 2014، فإن “داعش”، الذي يتخذ من سوريا المجاورة مقرا له، لم يعلن عن وجوده تنظيميا في لبنان، إلا أن قوام عناصره فيه يصل إلى نحو 70 مقاتلا.
وفي مطلع نوفمبر الجاري، أعلنت مصادر أمنية تسلل عشرات من أتباعه عبر الحدود إلى الداخل اللبناني لتنفيذ تفجيرات وهجمات إرهابية في مناطق “الشيعة”، وعلى رأسها الضاحية الجنوبية، واليوم نفذ انتحاريان تفجيرين في منطقة برج البراجنة بالقرب من مركز الأمن العام، في الوقت الذي أعلن فيه حزب الله، الذي يتخذ من الضاحية معقلا له، إلقاء القبض على انتحاري ثالث.
للضاحية الجنوبية أثر في الحرب الأهلية اللبنانية، التي اندلعت شرارتها عام 1975 وانطفأت بعد 15 عاما، فقد فرّ إليها آلاف من النازحين الشيعة قدّرت أعدادهم وقتها بنحو 150 ألفا، ليصل تعدادها في الوقت الحالي إلى نحو مليون نسمة.
اتخذ “موسى الصدر” من الضاحية مقرا لحركته الإسلامية الشيعية مع بداية الحرب الأهلية، وظلت مقرا لها حتى عقب غيابه، الذي ظل لغزا في تاريخ لبنان الحديث، ومع تصاعد وتيرة الحرب نزح السكان المسيحيون من الضاحية التي أصبحت غالبيتها من الطائفة الشيعية.
في خضم الحرب الأهلية دخلت إسرائيل على الخط عام 1982، لتجتاح جنوب لبنان كاملا، فتصدى لها آلاف من عناصر الحركة الإسلامية الشيعية ليعلنوا وقتها تكوين “حزب الله” كرمز لمقاومة الاحتلال، فاتخذ منها مركزا سياسيا وعسكريا واقتصاديا له.
مع نهاية الحرب الأهلية في أكتوبر 1990، بدأت لبنان تتعافى من جروحها الداخلية لتلتفت للمحتل، فقد كانت إسرائيل مسيطرة على أنحاء الجنوب اللبناني كاملا، فأفاقت المقاومة التي تزعمها “حزب الله” لتنفيذ هجمات متتالية في الضاحية الجنوبية ضد جنود الاحتلال، ليعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها إيهود باراك في مايو 2000 انسحابه من الجنوب اللبناني عدا “مزارع شبعا”، نحو 250 كيلومترا.
رفض “حزب الله” بقاء مسألة المعتقلين، على رأسهم سمير القنطار عميد الأسرى العرب في سجون إسرائيل، معلقة في ضوء فشل مفاوضات الإفراج عنهم، وهو ما دفعه لخطف جنود إسرائيليين على الحدود في العملية التي أطلق عليها “الوعد الصادق”، في يوليو 2006، فردت إسرائيل بعملية جوية وبرية واسعة النطاق سميت بـ”حرب تموز” واستمرت 34 يوما.
كان للضاحية الجنوبية نصيب الأسد من الدمار، الذي أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية، وقتل فيها المئات ودمرت بنيتها التحتية بالكامل، إلا أن رد “حزب الله” على العملية الإسرائيلية كان مدويا، فسقطت صواريخه في القلب الإسرائيلي لأول مرة منذ تأسيس الدولة العبرية 1948.
عرفت العملية الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية باسمها فيما بعد، حيث أكد رئيس أركان هيئة الشمال بالجيش الإسرائيلي غادي إيزينكوت، أن تل أبيب ستتخذ من “استراتيجية الضاحية” منهجا لها في هجماتها مستقبلا، وهي استراتيجية تقوم على استخدام القوة غير المتكافئة وتدمير البنى التحتية بشكل تام، وأصبحت فيما بعد خطة رسمية بموافقة حكومة الاحتلال.
انقسم مؤيدو ومعارضو حزب الله بعد الحرب بشكل حاد، فحجم الدمار الذي خلفته الحرب دفع كثيرين للتساؤل عن جدوى ما قامت به “الميلشيا” ووضعت البلد بالكامل رهينة للغارات الإسرائيلية، إلا أن أهداف “حزب الله” تحققت بعد عامين عندما عادت مزارع شبعا إلى لبنان، وأفرجت إسرائيل عن سمير القنطار في يوليو 2008 في صفقة تبادل شملت 4 أسرى وجثث 199 لبنانيا وفلسطينيا وآخرين مقابل تسليم رفات الجنديين الإسرائليين اللذين قتلا في عملية “الوعد الصادق”.
أعطى “الانتصار” الذي تحقق “حزب الله” مشروعية كبيرة لفرض سيطرته على ضاحية العاصمة الجنوبية التي تكتسب أهمية استراتيجية للدولة اللبنانية، ففيها المطار الدولي وعدة مصالح وأكبر المناطق السكنية، لتصبح منطقة تمركز قيادات ميليشيا “حزب الله” وهيئاتها ومنازل منتسبيها، وظلّ الوضع مقبولا على الرغم من انتشار السلاح بشكل كبير بين القرى والمنازل ومقرات الميلشيا، وزاد نفوذ “حزب الله” سياسيا في البلاد منذ ذلك الوقت.
مع اندلاع ثورات الربيع العربي توجهت الأنظار لمعرفة موقف “حزب الله”، خاصة عقب اشتعال الثورة المسلحة في مارس 2011، ضد حليفه بشار الأسد في سوريا، إلا أن مساندته للنظام السوري ظلت غير معلنة.
بعد تكشف تورط مقاتلي حزب الله في سوريا ضد المعارضة المسلحة، بدأ الداخل اللبناني يشتعل، فوقعت عدة تفجيرات انتحارية وبسيارات ملغومة في الضاحية الجنوبية لاستهداف المدنيين وقيادات الميليشيا، فوقعت تفجيرات يوليو 2013 سقط خلالها عشرات الجرحى.
في أغسطس 2013، أعلنها حسن نصرالله صراحة من معقله الضاحية الجنوبية، قائلا: “أنا مستعد للقتال في سوريا شخصيا”، لتتخذ الأحداث بعدها منحى جديدا، وسط إدانات ورفض سياسي لبناني وعربي لجر “حزب الله” البلاد إلى الصراع السوري، ووقعت عدة تفجيرات في أنحاء لبنان أودت بحياة العشرات.
في يناير 2014، وقعت 3 تفجيرات بالضاحية أودت بحياة عشرات، كان أحدها بالقرب من مستشارية إيران، وتبنت جبهة النصرة، جناح تنظيم القاعدة في سوريا، التفجير ضد عناصر حزب الله، إلا أن تفجيرات تلت ذلك على مدار أشهر أوقعت مزيدا من القتلى اللبنانيين، إلا أن تفجيري اليوم الخميس، يعدان أكبر عملية إرهابية في البلاد خلال الأعوام القليلة الماضية، أودت بحياة نحو 50 قتيلا و180 جريحا.