وسط عالم تلتهب درجة حرارة صراعاته وتحدياته مثلما تلتهب درجة حرارة أجوائه.. عالم يموج بالمتغيرات والتحديات سياسية واقتصادية.. بيئية ومناخية.. وصولا لتحديات تتعلق بالثوابت والهوية جاءت مشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسى الناجحة فى القمة الإفريقية الروسية التي عقدت بمدينة سان بطرسبرج، لتفتح نافذة جديدة من الأمل باتجاه عالم أفضل وأكثر عدالة لإفريقيا وشعوبها وآمال أجيالها القادمة.. نافذة جديدة تأمل مصر أن تسهم فى تخفيف حرارة كوكبنا المضطرب أرضا وجواً لتنعم شعوبه وفى مقدمتها شعوب قارتنا الإفريقية بالسلام والاستقرار والرخاء.
وشكلت مشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسى فى القمة الإفريقية الروسية الثانية حلقة مهمة فى سلسلة متكاملة من التحركات والمشاركات المنسقة، التى تعكس رؤية القيادة المصرية لما يجب أن يكون عليه تموضع إفريقيا كقارة فاعلة فى النظام العالمي الجديد، وتحديدًا فيما يخص نمط علاقاتها مع القوى العظمى التى تسعى كل منها لتعزيز مناطق نفوذها.
وجاءت كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسى، اليوم /الجمعة/، فى الجلسة العامة للقمة واضحة وحاسمة، لتؤكد وبوضوح معنى أصيلاً مفاده أن إفريقيا بثرواتها يجب أن تكون للأفارقة، ويجب أن تبقى قارتنا بمنأى عن مساعى الاستقطاب فى الصراعات القائمة.
الدفاع عن حقوق أبناء القارة الإفريقية كان ولا يزال على رأس أولويات السياسة الخارجية المصرية منذ تولى الرئيس السيسى مقاليد الحكم فى البلاد فى 2014، فكانت مصر على مدار السنوات التسع الماضية صوت إفريقيا المسموع والمؤثر أمام المحافل الدولية؛ للدفاع عن حقوق القارة السمراء فى التنمية والأمن والسلام، وفى قضايا مصيرية تتخطى فى تأثيراتها وتحدياتها حدود الحاضر لترسم صفحات المستقبل.. فالقارة التى طالما عانت من الحروب والصراعات والفقر والأمراض على الرغم مما تذخر به من ثروات بشرية وطبيعية لم يعد مقبولا أن تظل فى مقعد متأخر بين مقاعد اللاعبين الفاعلين فى ظل نظام عالمى بازغ، بل حان الوقت كى يتوازى إنفاذ إرادتها مع حجم مواردها وطموحات شعوبها.
ومن سان بطرسبرج حيث التأمت القمة بمشاركة عدد من القادة الأفارقة جاءت رسالة السلام المصرية، حيث أكد الرئيس السيسى فى كلمته أن مصر كانت دوماً رائدة وسباقة، في انتهاج مسار السلام، سلام الأقوياء القائم على الحق والعدل والتوازن، فكان هو خيارها الاستراتيجي الذي حملت لواء نشر ثقافته، إيماناً منها بقوة المنطق لا منطق القوة، وبأن العالم يتسع للجميع.
كلمة الرئيس السيسى تضمنت أيضا رؤية مصر بشأن الظرف الدولي الراهن، أهم المحاور التي ينبغى التركيز عليها، كأساس لتعميق التعاون القائم تحت مظلة الشراكة الاستراتيجية.. حيث أشار إلى أن الدول الإفريقية ذات سيادة، وإرادة مستقلة، وفاعلة في مجتمعها الدولي، تنشد السلم والأمن، وتبحث عن التنمية المستدامة، التي تحقق مصالح شعوبها أولاً، ويتعين أن تبقى بمنأى عن مساعي الاستقطاب في الصراعات القائمة.. وجاء ما ذكره الرئيس السيسى فى هذا الصدد بمثابة رسالة للقاصى والدانى بأهمية عدم السعى لاستقطاب القارة السمراء فى ظل ما يشهده العالم حاليا من صراعات مباشرة أو بالوكالة بين قوى عظمى تتنازع مقاعد القيادة دونما اكتراث، لما تسببه هذه الصراعات من أضرار بالغة بمصائر وحياة شعوب أخرى من العالم.
ويوضح الرئيس السيسي- في كلمته- أن صياغة حلول مستدامة للصراعات القائمة في عالمنا اليوم، يتعين أن تتأسس على أهداف ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ القانون الدولي بما في ذلك التسوية السلمية للنزاعات، والحفاظ على سيادة الدول ووحدة أراضيها، بجانب ضرورة التعامل مع جذور ومسببات الأزمات، لاسيما تلك المتعلقة بمحددات الأمن القومي للدول، وكذا أهمية الامتناع عن استخدام الأدوات المختلفة، لإذكاء الصراع وتعميق حالة الاستقطاب، ومن بين ذلك توظيف العقوبات الاقتصادية خارج آليات النظام الدولي متعدد الأطراف.
وحدد الرئيس السيسي عناصر أساسية لما يتعين أخذه بعين الاعتبار، وفي المقدمة احتياجات الدول النامية، وعلى رأسها دول القارة الإفريقية فيما يتعلق بالتداعيات شديدة الوطأة على اقتصاداتها جراء الصراعات والتحديات القائمة، وبالتحديد في محاور الأمن الغذائي، وسلاسل الإمداد وارتفاع أسعار الطاقة، وأكد في هذا الشأن أهمية إيجاد حلول عاجلة لتوفير الغذاء والأسمدة بأسعار تساعد إفريقيا على تجاوز هذه الأزمة، مع البحث عن آليات تمويل مبتكرة تدعم النظم الزراعية والغذائية في إفريقيا، وقال “إنني لأتطلع للتوصل لحل توافقي بشأن اتفاقية تصدير الحبوب يأخذ في الاعتبار مطالب كافة الأطراف ومصالحها ويضع حداً للارتفاع المستمر في أسعار الحبوب”.
كما أكد الرئيس السيسي أن التطورات الدولية المتلاحقة وتداعياتها التي باتت تمس كافة أرجاء عالمنا، تحتم وجود صوت إفريقي مؤثر وفعال، داخل المحافل الدولية القائمة، وبما يعمل على إيصال موقف الدول الإفريقية، ويحقق القدر المطلوب من التوازن عند مناقشة القضايا ذات التأثير المباشر على مصالحها.
ووجه الرئيس السيسي رسالة للجانب الروسى معربا عن تطلع مصر لأن تحظى المطالب الإفريقية في إطار مجموعة العشرين، وكذا مساعي إصلاح المؤسسات التمويلية الدولية، بدعم الشريك والصديق الروسي.
ويؤكد المراقبون السياسيون أن مصر باتت فى عهد الرئيس السيسى بوصلة إفريقيا نحو العالم وبوصلة العالم نحو إفريقيا.. وصار صوت مصر هو الصوت الذى يتحدث باسم القارة الأم، فقمة سان بطرسبرج لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة التي يحرص الرئيس السيسي خلالها على الزود عن مصالح القارة، ورؤية مصر وقيادتها فيما يخص علاقات إفريقيا بالقوى الكبرى، لم تعكسه فقط كلمته ومحور لقاءاته الثنائية خلال القمة الروسية الإفريقية، ولكن المتابعين لتحركات الرئيس السيسي وخطاباته ومشاركاته خلالها قمم إفريقيا مع القوى الكبرى يلمسون ويثمنون الرؤية المصرية التى يحرص الرئيس السيسي على طرحها خلال هذه الفعاليات الدولية، وهو أمر ليس بجديد على مصر دولة السلام التى عززت مكانتها الدولية منذ عام 2014 فاكتسبت ما تستحقه من فرض للهيبة والنفوذ.
وبينما ينطلق قطار التنمية فى مصر صوب الجمهورية الجديدة، يبقى الدفاع عن مصالح القارة الإفريقية وتحقيق التنمية العمل على تحقيق مصالح شعوبها وتطلعاتهم إلى مستقبل أفضل على رأس قناعات وأولويات مصر فى علاقاتها الخارجية، حيث يحرص الرئيس السيسى خلال جميع المناسبات واللقاءات والمؤتمرات والقمم على التركيز على حشد جهود المجتمع الدولي، من أجل دعم التنمية فى القارة السمراء.
ومثلما ظهر هذا الحرص بجلاء فى قمة سان بطرسبرج فقد ظهر كذلك بجلاء خلال مباحثات الرئيس السيسى خلال أعمال القمة الإفريقية الأمريكية التي عقدت بواشنطن فى نهاية العام الماضي، حيث أشار الرئيس السيسي إلى أن القارة الإفريقية تحتاج إلى بنية أساسية قارية مكتملة الأركان، لدعم تنفيذ الجهود التى تستهدفها، وليكن ذلك من خلال مشروع دولي ضخم يحشد الموارد والدعم من الدول الكبرى والخبرات التنموية الدولية لبلورة رؤية شاملة لتلك البنية الأساسية، التي تعتبر حتمية لنجاح جهود التنمية فى القارة.
وفي ظل أزمة الغذاء التي يعانى منها العالم بأسره.. سلط الرئيس السيسى خلال قمة واشنطن التي عقدت فى الفترة من 13 إلى 15 ديسمبر الماضي الضوء على القارة الإفريقية، وما تعانيه من نقص فى الغذاء، حيث استعرض رؤية مصر لتعزيز الأمن الغذائي في إفريقيا.
رؤية مصرية لتعزيز الأمن الغذائى فى القارة من خلال خمسة محاور تتضمن الحاجة لمراعاة تأثير الأزمات الدولية على اقتصاديات دولنا، خاصة الدين الخارجي، ما يفرض وضع آليات لتخفيف عبء الديون عبر الإعفاء أو المُبادلة أو السداد المُيسر؛ تكثيف الاستثمارات الزراعية الموجّهة إلى إفريقيا لتطوير القدرات الإنتاجية والتخزينية لدولها عبر توطين التكنولوجيا الحديثة بشروط مُيسرة؛ ضرورة الحفاظ على انفتاح حركة التجارة العالمية؛ وتوفر اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية إطاراً لتعزيز التكامل بين دول القارة؛ دعم الدول الكبرى لدولنا لتعظيم الاستفادة منها بالاستثمار في البنية التحتية والمشروعات الزراعية.
الرئيس السيسى شدد كذلك على وجود ارتباط وثيق لا شك فيه بين الأمنين الغذائي والمائي، وتنظر مصر لهذا الرابط باعتباره أمناً قومياً، بما يحتم توافر الإرادة السياسية لصياغة أطر قانونية لضبط مسار التعاون بين الدول التي تتشارك الموارد المائية، وبما يسهم في تحقيق التنمية دون إلحاق ضرر ذي شأن.
وشدد الرئيس السيسي على أن تحقيق الأمن الغذائي يرتبط بجهود التكيّف المناخي، مشيرا في هذا الصدد إلى مخرجات قمة المناخ التي استضافتها مصر.
وقال إن مصر أطلقت عددًا من المبادرات في مجال تمويل التكيف، ومنها إنشاء مركز القاهرة للتعلم والتميز حول التكيف والصمود بالتعاون مع الجانب الأمريكي، بالإضافة لمبادرة “الغذاء والزراعة من أجل التحول المستدام- فاست” مع منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، كما تم إيلاء أهمية خاصة لمحور الوفاء بالالتزامات بالتأكيد على التزام الدول المتقدمة بتوفير تمويل 100 مليار دولار سنوياً لمواجهة تغير المناخ، كما نجحت قمة المناخ في مصر في إنشاء- ولأول مرة- صندوق لتمويل الدول النامية لتجاوز خسائر وأضرار تغير المناخ معربا عن التطلع إلى بدء مسار تفعيل الصندوق بما في ذلك هيكله التمويلي.
وبالتوازى وفى ذات السياق.. وخلال القمة الإفريقية- الأوروبية التى عقدت فى بروكسل فى فبراير من العام نفسه.. أكد الرئيس السيسي أن الدعم المقدم إلى الدول الإفريقية بما فيها مصر لمواجهة تداعيات فيروس كورونا يمثل خطوة على الطريق نحو الشراكة الشاملة التى نسعى اليها فى المجال الصحى.
الرئيس السيسى دعا كذلك فى كلمته الشركاء من الدول الصديقة إلى تعزيز الجهود المبذولة فى هذا المجال لدعم الدول الإفريقية، وتوفير الدعم اللازم والمستدام لسد الاحتياجات الصحية، وكذلك توفير الآليات الدولية لتوزيع اللقاحات لتصبح أكثر عدالة واستجابة للظروف الاجتماعية والاقتصادية لكل منها.
وإفريقيا تقع في قلب تحديات تغير المناخ وتتأثر بها على نحو يفوق غيرها من المناطق”، واقع أكد عليه الرئيس السيسي- خلال الجلسة رفيعة المستوى لحوار بطرسبرج، في يوليو الماضي- حيث أشار إلى أن إفريقيا لها وضع خاص وقدرات محدودة على التعامل مع الأزمات فى ظل ضعف حجم التمويل المتاح لها للتغلب على تلك الصعاب.
وأضاف الرئيس السيسي أن أزمتي الغذاء والطاقة فاقمتا من حجم التحديات التى يتعين على الدول الإفريقية مواجهتها، إلى جانب ما يمثله تغير المناخ من تهديد حقيقى لدول القارة التي تعاني من التصحر وندرة المياه وارتفاع مستوى البحر والفيضانات والسيول.
وما من شك في أن إفريقيا باتت ركنا محوريا فى النظام العالمى الجديد وقبلة للدول العظمى التى تتسارع بل وتتسابق لإقامة شراكة استراتيجية معها، فالقارة تزخر بثروات عديدة طبيعية وبشرية.
وعلى الجانب الآخر فقد جاءت قمة سان بطرسبرج بروسيا لتحمل من الجانب الروسى رسائل طمأنة لإفريقيا لاسيما فيما يتعلق بالأمن الغذائي في ظل أزمة الحبوب العالمية، طمأنة عكستها كلمات الرئيس الروسى فلاديمير بوتين الذي أكد أن القارة الإفريقية أصبحت مركزا جديدا للقوة مع تزايد دورها السياسي والاقتصادي، مشددًا على ضرورة تدارك هذا الواقع.
وأضاف بوتين خلال الجلسة العامة للقمة الروسية الإفريقية أن التسوية الأوكرانية مسألة ملحة للجميع، لافتا إلى أن إفريقيا على استعداد لحل القضايا التي تتواجد خارج منطقة مصالحها.
وتابع: “سمعة المنظمات الإفريقية الإقليمية تتزايد، وروسيا دعمت مبادرة منح الاتحاد الإفريقي مكانا في مجموعة العشرين، حيث يعبر هذا القرار عن الواقع وتوازن القوى في العالم المعاصر”.
وواصل: “منفتحون للتعاون مع منظمات تمويلية إقليمية أخرى، وعقدنا بالأمس اجتماعا مع قيادتها، وطرحنا مبادرة للتعاون بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي والمنطقة الإفريقية للتجارة الحرة، ونؤيد سعي الدول الإفريقية للمشاركة على نطاق واسع في نشاط منظمة الأمم المتحدة، ونحن نرى موقفا فعالا في هذا الاتجاه من قبل الاتحاد الإفريقي”.
وأبدى استعدادا لدراسة مقترحات لتوسيع تمثيل الأفارقة في مؤسسات الأمم المتحدة، بما في ذلك سياق إصلاح مجلس الأمن الدولي، مؤكدا أن الوقت قد حان لتصحيح غياب العدالة التاريخية تجاه القارة الإفريقية.
كما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن بلاده أسقطت ديونا للدول الإفريقية بقيمة 23 مليار دولار، وستخصص نحو 90 مليون دولار إضافية من أجل التنمية.
وقال بوتين- خلال القمة “الروسية – الإفريقية- “تشارك روسيا أيضًا في الجهود المبذولة لتخفيف عبء ديون البلدان الإفريقية”.
وتابع: “حتى الآن بلغ إجمالي الديون التي شطبناها 23 مليار دولار، وبحسب الطلبات الأخيرة الواردة من البلدان الإفريقية، سنخصص أكثر من 90 مليون دولار للتنمية”.
وفيما اختتمت قمة سان بطرسبرج فعالياتها فقد بات من المؤكد أنها سمحت للجانبين باستكشاف فرص جديدة للتعاون بين الجانبين في إطار الشراكة الاستراتيجية والتاريخية التي تجمعهما، والتي تعززت منذ انطلاق القمة الإفريقية الروسية فى نسختها الأولى بسوتشي الروسية في عام 2019، والتي ترأسها بشكل مشترك الرئيس الروسى والرئيس السيسي خلال رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي.
ويشير المحرر الدبلوماسى لوكالة أنباء الشرق الأوسط “أ ش أ” إلى أن المتغيرات الحاصلة بالتوازى مع الاتجاه لتشكيل نظام عالمى جديد قد تفرض تحديات وضغوطا على معظم القوى والأطراف الإقليمية والدولية، لكنها يمكن أن تمثل فى الوقت نفسه فرصة كبيرة للقارة الإفريقية بشكل خاص لتحقيق قدر أكبر من الاستقلالية والندية وتنمية شراكات اقتصادية قوية يتم توظيفها لصالح شعوب القارة.
وما من شك في أن نجاح إفريقيا فى تحقيق هذه الأهداف المشروعة يكتسب- فى هذه المرحلة بالغة الأهمية من تاريخ البشرية- قوة ورشدا أكبر وأعمق فى ظل وضوح الرؤية وحسن صياغة السياسات لدى قادة أفارقة بارزين فى مقدمتهم الرئيس السيسي، الذى يضع كل يوم النقاط على الحروف فيصيغ كلمات لإنفاذ سياسات وخطط تضع إفريقيا في المكانة المأمولة التى يستحقها أبناؤها.
ويظل رصيد إفريقيا السياسى والتاريخى ونجاحها فى التحرر من الاستعمار دافعا يؤكد للأفارقة دوما أن قارتنا في الحاضر والمستقبل مثلما الماضي قادرة على فرض إرادتها وانتزاع استقلاليتها، طالما كانت مصر قوية بقيادتها ووحدة شعبها.
المصدر: أ ش أ