ذكرت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية أن أمن الطاقة أصبح الشغل الشاغل للعديد من الحكومات حول العالم، خاصة في ظل الموثوقية المتفاوتة لمصادر الطاقة المتجددة، وانخفاض إمدادات الغاز الروسي أو انقطاعها، ما أثار مخاوف وقلق شديدين بشأن أمن الطاقة في القارة العجوز.
و أوضحت أنه رغم أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أعادت تأكيد مخاوف الأمن القومي لدى الدول الغربية، إلا أنه فيما يتعلق بأوروبا، فإن الأولوية الأكثر إلحاحا كانت أمن الطاقة.. فمع قطع روسيا إمدادات الغاز الطبيعي وارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية، أنفقت الحكومات الأوروبية أرقاما على دعم فواتير الطاقة لشعوبها، وتخزين الغاز، وإنقاذ شركات الطاقة المفلسة أكثر مما أنفقته على تحديث جيوشها أو على دعم أوكرانيا.
وأشارت المجلة إلى أن العملية العسكرية الروسية ضربت أوروبا في خضم تحول سريع للطاقة بعيدا عن الوقود الأحفوري، وهو التحول المدفوع بمخاوف مرتبطة بالتغيرات المناخية، حيث تجسد هذا التحول في تعزيز أوروبا سياسات الطاقة الخضراء منذ عام 2020 من خلال برامج استثمار في قطاعات الطاقة النظيفة والمتجددة، وإطار عمل انتقال الطاقة، وغيرها، وهو ما قابله بشكل متواز جهود الصين في التوسع في إنتاج واستخدام السيارات الكهربائية لتكون بديلة لتلك التي تعمل بالوقود.
غير أن العملية العسكرية الروسية بالإضافة إلى العلاقات المتدهورة بين واشنطن وبكين، أدت –وفق مراقبين- إلى التأثير سلبيا على هذا التوجه (التوسع في الاعتماد على الطاقة النظيفة)، حيث ذهبت بعض الأصوات المتشددة في الولايات المتحدة إلى حد الإشارة إلى أن الوضع الجيوسياسي الجديد يضع الرؤية الأوروبية الكاملة لانتقال الطاقة موضع تساؤل، وأن التاريخ أصدر حكمه بالفعل ضد طموحات أوروبا “غير الواقعية” المتعلقة بالانتقال للطاقة المتجددة كمصدر نظيف ومحايد للكربون.
وتساءلت “فورين بوليسي” عما إذا كانت أوروبا وبقية نظام الطاقة العالمي قد تراجع فعليا عن تعزيز مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة في عام 2022؟ وما هي تبعات ذلك بشأن ملف الانتقال إلى الطاقة النظيفة؟
واعتبرت المجلة أن قصة سياسة الطاقة الأوروبية لعام 2022 هي قصة ضغوط، وليست أزمة مفتوحة كما يحاول البعض الترويج، حيث بالرجوع إلى بيانات عام 2022 للطلب والعرض على الطاقة، نجد أنه لم تكن هناك عودة شاملة – كما يحاول البعض تصويرها – للوقود الأحفوري، بل بالأحرى كان انتقالا مستمرا إلى مزيج طاقة جديد وأكثر تنوعا تكون فيه المكونات الأسرع نموا هي مصادر الطاقة المتجددة.
وأوضحت المجلة أن الأزمة في أسواق الطاقة العالمية في عامي 2021 و2022 لم تكن مدفوعة في البداية بنقص الإمدادات ولكن بزيادة غير عادية في الطلب مرتبطة بالتعافي من جائحة “كوفيد-19”.
وبالمنطق نفسه، ففي النصف الثاني من عام 2022، لم يكن العنصر الأهم في إدارة أزمة الغاز الأوروبية هو التحول إلى الفحم كبديل، ولكن انخفاض الطلب على الغاز كان هو العنصر الأبرز.. فقد ثبت خطأ أعضاء جماعات الضغط الصناعية الذين أصروا على أنه لا يمكن القيام بذلك (خفض الطلب).
ففي ألمانيا، على سبيل المثال، قلصت الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة من الإنتاج، في مقابل تعزيز الصناعات ذات الاستهلاك الأقل للطاقة من إنتاجها، وهو ما حقق توازنا ساعد على خفض استهلاك الطاقة دون حدوث انهيار في الإنتاج.. وإجمالا، انخفض استهلاك الكهرباء في أوروبا بنسبة 3.5 في المائة في عام 2022. وخلال الفترة بين أغسطس 2022 ويناير 2023، كان استهلاك الغاز في أوروبا أقل بنسبة 19.3 في المائة مقارنة بالسنوات الخمس السابقة.
ولفتت المجلة إلى وجود بعض المشاكل الأخرى خلال عام 2022، أدت إلى وضع ضغوط على محطات الغاز والفحم، ومن بينها: انخفاض إنتاج الطاقة الكهرومائية بسبب قلة هطول الأمطار، وانخفاض توليد الكهرباء عبر المفاعلات النووية في فرنسا –على سبيل المثال- إلى أدنى مستوى تاريخي لها، بسبب مشاكل إدارية وإهمال باريس في تحديث وصيانة أسطول مفاعلاتها.
ورغم ذلك، ظل إجمالي استهلاك الفحم في ذروة موسم استخدامه (صيف عام 2022) أقل بكثير من مستويات ما قبل جائحة كورونا. ومنذ سبتمبر 2022، استأنف استهلاك الفحم في أوروبا اتجاهه التنازلي. لذا، من غير المنطقي التحدث عن عودة أوروبا إلى استخدام الفحم بكثافة في حين أن مساهمتها – المدفوعة بأزمتي جائحة كوفيد-19 والحرب الروسية – لم تتجاوز 0.3 في المائة فقط في انبعاثات الفحم العالمية خلال عام 2022. كما تشير التوقعات إلى انخفاض الطلب على الفحم لمستويات قياسية خلال عام 2023، مع مساهمة الطاقة الكهرومائية بشكل أكبر وتعافي أسطول المفاعلات النووية الفرنسي.
أضف إلى ذلك أنه لا يوجد أدنى مؤشر على أي تراجع من قبل المستثمرين في مصادر الطاقة المتجددة، بل على النقيض تظهر التقارير ازدهار الاستثمار في الطاقة الشمسية في أوروبا.. فوفقا لأحدث البيانات من هيئة SolarPower Europe، فقد تم تركيب ما يقرب من 32 جيجاوات من وحدات الطاقة الشمسية في جميع أنحاء أوروبا خلال عام 2022، بزيادة قدرها 33 في المائة عن عام 2021. ومن المرجح أن يشهد عام 2023 توسعا في الاستثمارات ذات الصلة.
وبالنسبة لثورة السيارة الكهربائية (EV)، فإنها تسير –وفقا للمجلة الأمريكية- على قدم وساق، حيث بدأت عمليات شراء المركبات الكهربائية في جميع أنحاء أوروبا. كما يدخل منتجو السيارات الكهربائية الصينيون حاليا السوق الأوروبية على نطاق واسع، ما سيؤدي إلى انخفاض الأسعار. وفي نفس السياق، بدأ عمالقة صناعة المركبات العمل على وقف تطوير محركات الاحتراق الداخلي، أي تلك التي تستعمل البنزين أو الديزل، وهو ما يشير إلى تمسك أوروبا بالتزامها بوقف بيع السيارات التي تعمل بهذه المحركات نهائيا ابتداء من عام 2035، وذلك للاستعداد لتصفير الانبعاثات بحلول عام 2050.
كل ما سبق يشير إلى خطأ المراقبين والمحللين الأمريكيين الذين رأوا أن الحرب الروسية أثبتت الأهمية التي لا غنى عنها للوقود الأحفوري، وأن التطورات الأخيرة (الحرب الروسية) أدت إلى تراجع عام عن تحول الطاقة، حيث تتناقض هذه التقديرات تماما مع الحقائق على الأرض.
والأكثر أهمية من ذلك هو أن عمل الحكومات والشركات والمجتمع الأوروبي على تسريع انتقال الطاقة، لا يقوم على أسس أيديولوجية، ولكن انطلاقا من أنه في عالم من الخيارات الصعبة وعدم اليقين، بما في ذلك ما يتعلق بالسياسة الأمريكية، والأزمة البيئية المتصاعدة، والمخاطر الجيوسياسية، يبدو أن الانتقال نحو الطاقة الخضراء بالنسبة لأوروبا والعالم هو الرهان الأذكى.
المصدر : أ ش أ