باتت منطقة الشرق الأوسط عامة ودول الخليج خاصة في عين العاصفة بعد أن تشابكت الأزمتان الاقتصادية والأمنية، في ظل التحولات الخطيرة في الأزمات التي تشهدها المنطقة مثل أزمة اليمن وسوريا والعراق والتحورات الهيكلية في التنظيمات المتطرفة.
ومع تقليص الولايات المتحدة لمظاهر تواجدها ودرجة انغماسها في شئون هذه المنطقة برمتها، تاركة وراءها فراغا يغري قوى دولية وإقليمية أخرى بالتقدم لسد هذا الفراغ، كان من الطبيعي أن يثير هذا التطور قلق دول الخليج العربية.
ومن هنا تظهر أهمية فكرة ضرورة وجود نموذج جيوسياسي جديد للأمن والتنمية في دول الخليج، يحميها من التقلبات الحاصلة في موازين القوى الدولية والإقليمية معا.
يشير مفهوما الأمن والتنمية الجيوسياسي لدول الخليج إلى منظومة تشابك وترابط تفاعلات دول الخليج أمنيا وتنمويا بما هو أمن إقليمي، يُعنى بمجموعة من الدول المتجاورة جغرافيا، ويمكن أن يتسع هذا المفهوم ليشير إلى الأثر الذي تتركه سياسات إقليمية ودولية على دول منطقة الخليج، وثمة 8 دول تشاطئ الخليج العربي، هي أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربي والعراق وإيران، إلا أن تقسيم الخليج ظل يميل على نحو تقليدي، إلى كونه تقسيما ثلاثيا، أو ما كان يسمى قبل الغزو الأمريكي للعراق بمثلث القوى، بين شمال يُمثله العراق، وشرق تُمثله إيران، وغرب يتجسد في الأقطار الستة المشكّلة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي، وأصبح الآن يُعرف بمربع القوى بعد أن باتت الولايات المتحدة ضلعا محوريا في أمن الخليج.
وعرف النظام الإقليمي الخليجي في بعض مراحل تطوره شكلا غير مستقر من توازن القوى المحلي، كان يبدو فيه العراق موازنا لإيران، أما اليوم فإن هذا النظام يفتقر لوجود أي نظام محلي مشترك للأمن يمكن التعويل عليه في حل النزاعات القائمة أو السيطرة عليها، وبالتالي الحيلولة دون تحولها إلى صراعات عسكرية سافرة.. فالمنطقة تحتاج إلى صناعة بيئة أمنية آمنة تشكل بديلا للواقع القائم.
فقد كان أمن الخليج من القضايا الرئيسية المطروحة على الصعيدين الإقليمي والعالمي منذ سبعينات القرن العشرين، ومما زاد من خطورة الأمر أن البحث عن الأمن أصبح يشكل معضلة حقيقية في هذه المنطقة الحساسة من العالم في ظل استمرار غياب هيكل مستقر للأمن، وتعدد مصادر الخطر والتهديد، وتباين رؤى وتصورات الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بهذا الأمر.
ومن هنا أصبح التوصل لنظام أمني خليجي فعال في منطقة الخليج العربي عقدة كبيرة لدول المنطقة وكذلك للقوى الفاعلة في النظام العالمي، وخاصة أن إقليم الخليج العربي الذي يُعتبر في البعد الاستراتيجي جزءا من النظام الأمني العربي يشكل الركن الأهم في هذا النظام بما يحتويه من مصادر طبيعية للطاقة من نفط وغاز وصناديق ثروات سيادية هي الأكبر والأوفر في العالم.
وبالتالي تكمن أهمية إقليم الخليج العربي في كونه العصب الأساسي في حيويته وتأثيره الاستراتيجي على أمن واستقرار النمو الاقتصادي للنظام العالمي، ولهذا بات أمن واستقرار منطقة الخليج العربي الشغل الشاغل لدولها جميعا.
تأسيسا على ما سبق، ثمة مقترح لنموذج جيوسياسي للأمن والتنمية في الخليج، يتضمن ثلاثة نماذج فرعية لابد من تكاملها معا لتشكل في النهاية الهيكل المؤسسي والبنيوي للنموذج المقترح أو النموذج المتصور وهي: نموذج التوازن المحلي للقوى ونموذج التوازن الإقليمي ونموذج الموازن الخارجي.
النموذج الأول: نموذج التوازن المحلي للقوى، وهو ما يُمكن تعريفه بأنه شكل من أشكال توازن القوى المحلي، وبدا ذلك خلال العقدين السابع والثامن من القرن العشرين، وخاصة اعتبارا من عام 1975، وقد مثلت إيران الطرف الأول في معادلة التوازن، فيما مثل العراق طرفها الثاني، وقد انهار التوازن الإقليمي المحلي بضرب القوة العراقية في العام 1991، وتم بهذا تحييدها إستراتيجيا، وقد شابت هذه التجربة ثغرات عدة، حيث أسفرت في مجملها عن إخفاق توازن القوى المحلي في إدامة الاستقرار الهش، وانتهت المنطقة مع هذا الترتيب إلى حربين كبيرتين.
النموذج الثاني: نموذج التوازن الإقليمي، وتمثل هذا النموذج في مبادرة دول مجلس التعاون نحو تركيا كموازن إقليمي موثوق فيه للدور الإيراني في المنطقة، من خلال التوقيع على مذكرة تفاهم بين دول المجلس وتركيا، ذات أبعاد اقتصادية وأخرى استراتيجية.
وقد واجه هذا النموذج عقبات على خلفية عدم قدرة تركيا على أداء الدور المطلوب منها في الخليج لأنها حريصة على إعطاء الأولوية للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، وعدم استعدادها للقبول بمعادلة “الاقتصاد مقابل الأمن” نظرا للأعباء الهائلة للقبول بمثل هذه المعادلة.
النموذج الثالث: نموذج الموازِن الخارجي، والذي يستند إلى موازن خارجي، بمعنى وجود قوة عسكرية أجنبية في الخليج توازن القوة الإيرانية، وشهدت المنطقة صورا مختلفة من الحضور العسكري الأمريكي في الخليج، يعود تاريخيا إلى عام 1949، وشهد الوجود الأمريكي في المنطقة قفزة نوعية بعد حرب الخليج الثانية، بلغت ذروتها عام 1995 مع تشكيل الأسطول الخامس، الذي يُعد أول أسطول تشكله الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.
ووفقا للمنظور الاستراتيجي فإن النظام الأمني والتنموي الخليجي الأمثل يكمن في ضرورة التكامل بين النماذج الثلاثة المقترحة، كونه يتطلب مشاركة جميع الدول المطلة على الخليج العربي في لعب دور بناء وتنمية وتأمين أمن وحماية منطقة الخليج العربي، لأن جميع الدول من المفترض أن تكون لها مصلحة في أمن واستقرار المنطقة حتى يمكن تنميتها بشكل مستدام تصبح فيه قادرة على مواجهة التحديات الراهنة دوليا وإقليميا.
المصدر أ ش أ