على بُعد ساعات قلائل من موعد التصويت الرسميّ لاختيار الرئيس الأميركيّ، يبقى السؤال الذي يشغل الجميع: من سيحسم نتيجة هذه الانتخابات المثيرة والمليئة بعوامل وعناصر غير مسبوقة، من وباء لم تشهد البشريّةُ مثيلاً له منذ مائة عام، ونسيج اجتماعيّ داخل يكاد يهترئ، وبوتقة انصهار تبدو غير متجانسة ولا مرتاحة طبقاتها إلى بعضها البعض.
وفي ظلّ مرشّحَيْن متقدّمَيْن في العمر، أحدهما من خارج المؤسّسة السياسيّة الأميركيّة مرّة واحدة، وآخر أمضى أربعة عقود داخل العمل التشريعيّ والحزبيّ، لكن من غير أن يترك أثرًا حقيقيًّا، ولم يتمتّع يومًا بكاريزما تدفع الناخب إلى ترجيح كفّته.
كان المتوقّع أن تضحي نتيجة هذه الانتخابات من السهولة واليسر لو لم يكن هذا الفيروس الشائه قد ضرب الولايات المتحدة الأميركيّة؛ ذلك أنّ الرئيس ترامب كان قد وضع الاقتصاد الأميركيّ في مرتبة متقدمة حول العالم، ضمن سياق رؤيته لأميركا عظيمة مرّة أخرى. وتراجعت نسب البطالة إلى مستويات قياسيّة. غير أنّ الرياح جاءت بما لم تشتهِ سفن ساكن البيت الأبيض. وهنا فإنّ البعض يأخذ عليه طريقة تعاطيه مع الأزمة، فيما البعض الآخر يرى أنّها إشكاليّة قدريّة، ولا يحمل ترامب منها إلا القليل.
مهما يكن من أمر، فإن مسألة استطلاعات الرأي على أهمّيّتها لم تُفِد كثيرًا هذه المرّة في تقديم توقّعات شبه نهائيّة، بل إنّ غالبيّة ما جرت به المؤسّسات ووكالات الأنباء، إنّما جاء بصورة أو بأخرى بعيدًا عن الموضوعيّة والموثوقيّة، وبرسم حزبيّ مسيس، أو إيديولوجيّ غير منزّه.
وعليه، يبقى السؤال من جديد: من سيحسم نتيجة هذه الانتخابات؟
في محاولة أخيرة لاستطلاع إبعاد المشهد تبدو السيناريوهات أكثر غموضًا، وينفتح الباب من جديد على تكرار سيناريو انتخابات العام 2016، وذلك حين كانت استطلاعات الرأي تصبّ في صالح المرشّحة الديمقراطيّة هيلاري كلينتون، ومع ذلك فاز دونالد ترامب.
السرّ الغائب عن الأعين ربّما يتمثّل في الأصوات التي يُطلَق عليها الأصوات الخفيّة. وهناك فريق آخر من المراقبين يسمّيها الأصوات الخجولة. والفكرة هي أنّ هناك من بين جمهور الرئيس ترامب وناخبيه، من لا يودّ أن يكشف نفسه على الملأ في هذه الفترة الانتخابيّة لسبب أو لآخر. هؤلاء يشكّلون قوّة انتخابيّة لا يُستَهان بها، وتبدو بعيدةً عن الرصد في الوقت الحاضر.
ولعلّ ما يزيد المشهد الانتخابيّ هذه المرّة غموضًا، ذلك الإقبال الكبير على التصويت عبر البريد، الأمر الذي يحتاج إلى وقت أطول من المعتاد لفرز الأصوات، عطفًا على الإشكاليّات المواكِبة لهذه الآليّة، والطعن المتوقَّع عليها. وربّما يصل الأمر حدّ تعطيل إعلان النتيجة، ومن ثمّ اللجوء إلى المحكمة العليا، والتي نجح ترامب في رفدها بعنصر جديد من التيار المحافظ يتمثّل في القاضية “إيمي باريت” الكاثوليكيّة، المنتمية إلى جماعة “أهل الحمد”، ذات الطابع الإيمانيّ المحافظ للغاية.
هل هناك جماعة أخرى يمكنها أن تشكّل عاملاً مساعدًا لفوز هذا الطرف أو إخفاق آخر؟
يبدو أن من يُطلَق عليهم أصحاب الجيل “زد”، سيكونون بدورهم قوّة فاعلة هذه المرّة أيضًا؛ ذلك أنّ واحدًا من بين كلّ 10 أميركيين يحقّ لهم التصويت في الانتخابات العامّة هذه المرّة وُلِدَ بعد العام 1996، وهؤلاء ستكون لديهم فرصة للإدلاء بأصواتهم في الثالث من نوفمبر.
والثابت وفقًا لشركة “تارغت” للتحليلات، فإنّ حوالي 7.3 مليون شخص من هذه الفئة أدلوا بأصواتهم بالفعل، وهو ما يمثّل ضعفين ونصف ضعف عدد الأصوات التي تمّ الإدلاء بها في هذا الوقت قبل أربع سنوات.
من سيحصل على كعكعة هؤلاء الانتخابيّة الديمقراطيّون أم الجمهوريّون؟
عند الحزب الديمقراطيّ، أنّ كوادرهم قادرة على حشد الناخبين غير المنتظمين هذا العام، لكن على الجانب الآخر تبدو قاعدة ترامب الانتخابيّة من القوّة بمكان لاستقطاب الناخبين البيض من الجيل “زد”، لا سيّما أولئك الذين لم يُوفَّقوا في استكمال دراستهم الجامعيّة بعدُ.
تبدو أهمّيّة أصوات هذه الفئة في كونها مرجَّحة لمُرشَّح أو آخر ولو بنسبة بسيطة من الأصوات، لا سيّما أنّ هناك ولايات حاسمة مثل فلوريدا التي تحوز على 29 صوتًا في المجمع الانتخابيّ، تبدو فيها الحظوظ قريبة جدًّا بين ترامب وبايدن وبفارق لا يتجاوز الواحد بالمائة وليس أكثر، فيما ولايات أخرى مثل بنسلفانيا تتساوى فيها فرص كلا المرشّحَيْن.
هذا الهامش الذي يمكنه إحداث تغييرات جوهريّة في مشهد نتيجة السباق الرئاسيّ، يظلّ عاملاً مطاردًا لأولئك الذين لم يُصوِّتوا في العام 2016، وقد ذُهِلوا حين قُدِّر لترامب الفوز على هيلاري. ولهذا نرى الإقبال على التصويت هذه المرّة فاق الوصف؛ إذ إنّ أكثر من 80 مليون ناخب اقترعوا مبكّرًا، سواء من خلال صناديق الاقتراع بشكل مباشر، أو من خلال إرسال بطاقات الانتخاب إلى المراكز المختصّة عبر البريد.
وكما أن أصوات الناخبين الخجولين أو المختفين قد تكون هي جواد ترامب الراجح للبقاء في البيت الأبيض لأربع سنوات أخرى، فإن الناخبين للمرّة الأولى ربّما يصبحون الجسر الذي سيعبر عليه بايدن هذه المرّة، فقد أظهر استطلاعٌ للرأي أجراه مركز أبحاث بيو الشهير في واشنطن في منتصف أكتوبر أن بايدن يتفوّق على ترامب بنسبة 16 نقطة بين أولئك الذين لم يصوّتوا قبل أربع سنوات.
وفي استطلاع آخر أجراه مركز أبحاث ويسكونسن، تقدّم بايدن على ترامب بِـ27 نقطة، بين من لم يصوّتوا في 2016 في ولايات ويسكونسن وميشيغان وبنسلفانيا، وهي الولايات الثلاث التي منحت ترامب فوزًا غير متوقّع في ذلك العام.
لم تظهر طوال شهر أكتوبر 2020 أيّة مفاجآت تحوّل مسار العملية الانتخابيّة لصالح ترامب أو بايدن، وحتّى الإفراج عن إيميلات هيلاري كلينتون، والتي خُيِّل للجمهوريّين أنّها ستكون ضربة مؤثّرة للديمقراطيّين في الداخل، بقي تأثيرها هامشيًّا، سيّما وأنّ فحوى غالبيّتها تعلّقت بما هو خارج أميركا من سياسات، ولم تتقاطع مع الداخل الأميركي إلا في القليل جدًّا، ولهذا تمحورت السجالات في الأسابيع الأخيرة من جديد حول وباء كورونا.
من سيحسم النتيجة؟
سيظلّ الجواب غامضًا، وإن كان الغدُ لناظره قريبًا.