مصير عزل “ترامب” في قبضة الجمهوريين تكشف الصراع التاريخي بين الديمقراطية والحزبية في أمريكا
في خطوة تاريخية من شأنها تأجيج التوترات الحزبية بين الديمقراطيين والجمهوريين الأمريكيين من جانب، والتجاذبات السياسية بين قيم إرساء الديمقراطية أم المصالح الحزبية، جاءت مصادقة مجلس النواب مؤخراً بالأغلبية على بدء العزل الفعلي للرئيس الأمريكي، “دونالد ترامب” بعد إدانته بتهمتي عرقلة العدالة وإساءة استخدام السلطة ، وبذلك بات مصير عزل ترامب في قبضة مجلس الشيوخ، الذي يسيطر عليه الجمهوريون، حيث يأمل “النواب” الانتهاء من ذلك الأمر سريعا، ولكن تبدأ إجراءات الشيوخ خلال يناير المقبل.
فقد صوت مجلس النواب بأغلبية ٢٢٩ صوتا لتوجيه تهمة عرقلة عمل الكونجرس، و٢٣٠ صوتا لتهمة اساءة استغلال السلطة، وبموجب ذلك تم إحالة ترامب للمحاكمة أمام مجلس الشيوخ في إطار الإجراءات الهادفة لعزله.
تتعلق الإدانة الأولى بشأن إساءة استخدام السلطة، بضغط ترامب على أوكرانيا لفتح تحقيق مع ابن منافسه المحتمل بالانتخابات الرئاسية المقبلة جو بايدن، أما مسألة عرقلة عمل الكونجرس، فتخص اتهام الرئيس بإعاقة التحقيق برفض الامتثال لمذكرات الاستدعاء، وتوجيه أعضاء إدارته إلى فعل الشيء نفسه.
جاء القرار التاريخي لمجلس النواب قبل أقل من عام من الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر 2020 والتي يعتزم ترامب خوضها للفوز بولاية ثانية، وباستثناء عدد ضئيل، فقد صوت معظم النواب الديموقراطيين لصالح القرار الاتهامي ومعظم النواب الجمهوريين ضده، وقد شهدت الجلسة التي جرى في نهايتها التصويت واستمرت ساعات طويلة تبادل اتهامات بين الحزبين الديمقراطيين والجمهوريين.
وقالت رئيسة مجلس النواب الديموقراطية نانسي بيلوسي عند بدء الجلسة إنه “من المأساوي أن تصرفات الرئيس الطائشة جعلت من الضروري البدء بإجراءات العزل”، مضيفة “ما نناقشه هو الحقيقة الراسخة بأن الرئيس انتهك الدستور. ومن المؤكد كحقيقة أن الرئيس يمثل تهديدا مستمراً لأمننا القومي ونزاهة انتخاباتنا”.
في حين نفى النائب الجمهوري داج كولينز ذلك وقال “الرئيس لم يرتكب خطأ”، وأكد أن الديموقراطيين “قالوا لأنفسهم، إذا لم نستطع هزيمته (في الانتخابات) فدعونا نحاكمه لعزله .. الأميركيون سيرون ذلك بوضوح”. أما ديبي ليسكو النائبة الجمهورية من أريزونا، فقالت إن ترامب يتعرض “لعملية هي الأكثر ظلماً وتحيزاً سياسياً شاهدتها في حياتي”. وأضافت “لا يوجد أي دليل على أن الرئيس ارتكب مخالفة توجب العزل… هذه عملية عزل هي الأكثر حزبية في تاريخ الولايات المتحدة”.
من ناحيته، قال النائب الديموقراطي آدم شيف، الذي أشرف على التحقيق، إن الملياردير الجمهوري “كان مستعداً للتضحية بأمننا القومي في سبيل تعزيز فرصه في إعادة انتخابه”، واتهم الرئيس بأنه “حاول أن يغش وافتضح أمره”، مؤكداً أن “الخطر ما زال قائماً”.
كان ترامب قد استبق جلسة مجلس النواب التاريخية، بالتأكيد على أنه لم يرتكب “أي خطأ”، وذلك غداة توجيهه رسالة إلى بيلوسي شبه فيها إجراءات العزل بـ”محاولة انقلاب”.
وقال الرئيس في تغريدة على تويتر “هل يمكنكم تصديق أنه سيتم إطلاق إجراءات عزلي اليوم من قبل اليسار الراديكالي، من قبل الديموقراطيين الذين لا يقومون بشيء، بينما لم أرتكب أي خطأ.. إنه أمر فظيع”، مضيفاً “يجب أن لا يحصل هذا الأمر مع أي رئيس آخر”.
ووفقاً للدستور الأمريكي، فقد نصت الفقرة الثانية من المادة الأولى على أن “مجلس النواب يختار رئيسه والمسؤولين الآخرين، وتكون لهذا المجلس وحده سلطة اتهام المسؤولين”، ما يعني أن أولى خطوات العزل تبدأ من مجلس النواب، وهو ما تم بالفعل، فيما تنص الفقرة الثالثة من المادة الثانية للدستور، على أن “لمجلس الشيوخ وحده سلطة إجراء محاكمة في جميع تهم المسؤولين، وعندما ينعقد مجلس الشيوخ لذلك الغرض، يقسم جميع أعضائه باليمين أو بالإقرار، وعندما تتم محاكمة رئيس الولايات المتحدة، يرأس رئيس القضاة الجلسات، ولا يجوز إدانة أي شخص بدون موافقة ثلثي الأعضاء الحاضرين”.
بالنظر إلى أن مجلس الشيوخ الحالي يتكون من 53 عضوا جمهوريا و45 من الديمقراطيين وعضوين مستقلين، وهذا يعني أنه يتعين على 20 جمهوريا على الأقل التصويت مع جميع الديمقراطيين والمستقلين لإزاحة الرئيس عن منصبه.
ويشمل الجزء الخاص بمجلس الشيوخ في عملية العزل محاكمة يكون فيها النواب “مدّعون عامّون”، فيما يكون مجلس الشيوخ “أعضاء بهيئة المحلفين”، على أن يصوت ثلثاهم بالإدانة، أي 67 سناتور على أقل تقدير، وفي حالة أن يقدم أعضاء مجلس النواب حججهم وأدلتهم لإدانة ترامب، يرد محامي الرئيس على الاتهامات، في هذه المرحلة أمام مجلس الشيوخ خيارين، الأول: وهو أن يتم السير في طريق استدعاء الشهود وإجراء محاكمة أخرى بشكل أساسي، والثاني أن يقرر 51 عضوا قدرتهم على اتخاذ القرار، بحجة أنهم سمعوا ما يكفي ويعتقدون أنهم يعرفون ما سيحدث ويمكنهم التحرك للتصويت على مادتي المساءلة التي أرسلها مجلس النواب.
وعلى الرغم من التصويت ضد ثلاثة رؤساء أمريكيين سابقين لعزلهم، غير أنه في حالتي الرئيسين الديمقراطيين بيل كلينتون عام 1998 وأندرو جونسون عام 1868 تمت تبرئتهما في مجلس الشيوخ وأكملوا فتراتهم الرئاسية، وهذا هو السيناريو الأقرب للتحقق، بينما استقال الجمهورى ريتشارد نيكسون عام 1974 بعدما صوت مجلس النواب ضده بعد دوره في فضيحة ووترجيت.
وفي حالة قيام مجلس الشيوخ بإدانة ترامب وإزالته من منصبه، سيصبح نائب الرئيس مايك بنس رئيسًا ويكمل ولاية ترامب التي تنتهي في 20 يناير 2021، وفقًا لما يقره الدستور الأمريكي في حال العزل.
وينص الدستور الأمريكي في مادته الثانية على إنه “في حال عزل الرئيس من منصبه، أو وفاته، أو استقالته، أو عجزه عن القيام بسلطات ومهام المنصب المذكور، يؤول المنصب إلى نائب الرئيس، ويمكن للكونجرس أن يحدد بقانون أحكام حالات عزل أو وفاة أو استقالة أو عجز الرئيس ونائب الرئيس كليهما، معلناً من هو المسؤول الذي يتولى عند ذلك مهام الرئاسة إلى أن يتم انتخاب رئيس”.
كما تكشف عملية وإجراءات عزل الرئيس الأمريكي “ترامب” في أحد جوانبها عن الصراع على حقيقة أولوية إرساء قيم الديمقراطية الأمريكية والإعلاء من شأنها أم إعلاء مصالح الحزب المهيمن على كرسي الرئاسة، فقد أشارت دراسات سياسية إلى أن الآباء المؤسسين كانوا لا يرغبون بدولة ديمقراطية خالصة، حيث خلا إعلان الاستقلال مما يؤكد عن أمريكا باعتبارها ديمقراطية، فقد كان جورج واشنطن، يعارض الديمقراطية صراحةً”، بحسب ديفيد جريبر في كتابه “مشروع الديمقراطية”، وكذلك ماديسون وهاميلتون وآدمز وغيرهم من المؤسسين للاتحاد الذين عبَّروا عن رغبتهم في إنشاء نظام يتجنب أخطار الديمقراطية ويسيطر عليها.
ولكن ثمة أوجه للشبه والاختلاف بين الحزبين في هذا الصدد، حيث يقوم الحزب الديمقراطي والجمهوري، كل على حده، بالمصادقة على برنامج سياسي كل أربع سنوات تتضح من خلاله أهداف وتوجهات كل حزب. فإذا كان الحزب الديمقراطي قد بدأ محافظاً ثم تحول تحت قيادة الرئيس فرانكلين روزفلت عام 1932 باتجاه الليبرالية والأفكار التقدمية ومناصرة النقابات العمالية وتدخل الدولة في الاقتصاد، وتأييد حل النزاعات الخارجية سلمياً، فهو في هذه القضايا يقف على النقيض من الحزب الجمهوري، لكن الحزبين يتفقان في قضايا أخرى على رأسها أمن إسرائيل، فالتشابه والاختلاف يقع داخل الحزب الواحد ومن فترة إلى أخرى، لكن المؤكد أن تحقيق المصالح الحزبية للأعضاء يأتي في مقدمة أولويات كل حزب على حده.
يبقى القول إن واقع الحياة السياسية الأمريكية يؤكد أنه لا فرق ايديولوجياً يذكر بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري وإنما اختلاف فقط في مهمة المرحلة مع البحث عن المصالح الحزبية الضيقة على حساب إرساء أسس الديمقراطية وفق المنهج الأمريكي.
المصدر: وكالة أنباء الشرق الأوسط (أ ش أ)