يمثل قرار الرئيس عبدالفتاح السيسي بإنشاء بعثة لمصر لدى منظمة حلف شمال الأطلنطي “ناتو” وتعيين إيهاب محمد مصطفى فوزى سفير مصر لدى مملكة بلجيكا مندوبا لمصر لدى المنظمة، قراءة استراتيجية واعية لمستقبل العلاقات المصرية مع الحلف في ظل مرحلة تتطلب التعاون البناء لمواجهة التحديات ولكن وفق مقتضيات ثوابت السياسة الخارجية المصرية وبما يحقق المصالح الاستراتيجية العليا والأمن القومي المصري.
يترجم هذا القرار مجموعة من الخطوات المهمة على صعيد تدشين مرحلة جديدة من التعاون بين مصر وحلف الناتو، أول هذه الخطوات إقرار التمثيل الدبلوماسي لمصر في حلف الناتو بما يسمح لها بمساحة أكبر من المناورات السياسية لطرح ثوابت ومحددات رؤيتها حول الفرص والتحديات الموجودة في الشرق الأوسط بعد أن أدرك مسئولو الناتو أهمية الدور المحوري المصري في استقرار وأمن المنطقة بحكم مكانتها الاستراتيجية المهمة.
وأكد الفريق بيتر بافل، رئيس اللجنة العسكرية بحلف الناتو، خلال مباحثاته مع الفريق محمود حجازي رئيس أركان حرب القوات المسلحة، أهمية التنسيق والتعاون وتضافر الجهود بين مصر والناتو في مجال مقاومة التطرف والإرهاب، منوهًا بدعم الحلف الكامل لهذه الجهود بما يدعم تحقيق الأمن والاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط.
ثانيًا: جاء هذا القرار تتويجًا للجهود المبذولة من جانب مصر وحلف الناتو نحو التطلع لمرحلة جديدة إذ شهدت الفترة الماضية حراكًا دبلوماسيًّا كبيرًا تمثل في الزيارات الدبلوماسية المتبادلة من الجانبين، فقد جاءت زيارة وزير الخارجية سامح شكري خلال الأسبوع الأول من مارس 2017 إلى مقر الحلف بالعاصمة البلجيكية ولقائه ينس ستولتنبرج ردًّا دبلوماسيًّا على زيارة اليخاندرو ألفاجونزالس مساعد سكرتير عام حلف شمال الأطلنطي للشئون السياسية إلى مصر.
ومن المقرر أن يقوم مساعد سكرتير عام الحلف للتهديدات الأمنية الناشئة بزيارة مصر في نهاية مارس الجارى للبناء على جولة المشاورات الحالية والتباحث بشأن القضايا ذات الأولوية المتقدمة للجانب المصري.
حتمية التعاون المشترك:
فرضت المتغيرات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط خلال الأعوام الستة الماضية وما أفرزته من ظهور الحركات الراديكالية المتطرفة وتنظيم داعش في عدد من دول الشرق الأوسط في العراق وسوريا وليبيا، بيئة جديدة تقتضي حتمية التعاون من أجل القضاء على هذه الظواهر واجتثاث منابعها ومحاصرة تداعياتها السلبية على المنطقة.
وقد كان الموقف المصري من تدخل الناتو في ليبيا وعدم اضطلاع الحلف بدوره في ترتيبات ما بعد التدخل العسكري 2011 والتي تشمل إعادة الإعمار والتصدي لخطر انتشار الجماعات الإرهابية فيها، كاشفًا عن طبيعة الرؤية المصرية في تعاملها مع التطورات الجارية في الإقليم انطلاقًا من الثوابت المصرية في تعاملها مع الأحلاف بشكل عام.
إذ إن طرح الناتو في ذلك الوقت لم يلق أي قبول من الجانب المصري، وقد أكد الرئيس السيسي وجهة نظر مصرية تستشرف مستقبل التطورات في المنطقة حيث أكد أن حلف الناتو اتخذ إجراءات في ليبيا لم تكتمل، وتركها عرضة لتفشي أعمال العنف والإرهاب وأن ذلك أدي إلى سقوط ليبيا تحت سيطرة الجماعات المسلحة والمتطرفة في غيبة وجود جيش وطني يدافع عنها.
وأثبتت تطورات الأحداث في ليبيا صدق وصحة الموقف المصري، ومن ثم كان على الناتو أن يتواصل بشكل أكثر فاعلية مع الدبلوماسية المصرية وتقديرها السليم لطبيعة المكونات السياسية في دول المنطقة.
ثوابت ومراحل التحرك المصري:
ينطلق التوجه المصري نحو تعزيز التعاون مع حلف الناتو مرتكزًا على ثوابت راسخة لمبادئ الدبلوماسية المصرية واتخذ كذلك خطوات متدرجة من التعاون المحسوب بدقة.
أولها: أن موقف الدبلوماسية المصرية الثابت منذ عهد الرئيس الراحل عبدالناصر وحتى الآن يرفض انضمام مصر الرسمي لعضوية أية أحلاف عسكرية.
ثانيها: التعاون بين مصر وحلف الناتو يندرج في إطار مبادرة الحوار المتوسطي التي بدأت مشاوراتها في 1994 وتم إعلانها في 8 فبراير 1995، وتعاملت مصر مع هذه الآلية على أنها- وفق تعبير وزير الخارجية الأسبق محمد العرابي- “أفضل المتاح” لتعزيز التعاون على نحو يخدم المصالح المصرية من خلال الدخول في أطُر التعاون مع الحلف في حدها الأدنى تتضمن استفادة انتقائية من البرامج التي يطرحها الحلف والتي تستجيب مع الاحتياجات المصرية، خاصة في إطار برنامج العلم من أجل السلام وحرصت مصر عمليًّا على المشاركة في عدد من البرامج التدريبية والعلمية.
ثالثها: بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 فرضت حسابات المصلحة الوطنية المصرية أن تتقدم خطوة أخرى في العلاقات مع الحلف وكان ذلك نابعا من تزايد الجهود الدولية والإقليمية في مجال مكافحة الإرهاب ورغبة مصر في التعاون في تبادل المعلومات الاستخباراتية وتنسيق الجهود في هذا المجال، لاسيما في ضوء خبرة مصر مع الجماعات الإرهابية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين.
رابعها: منذ عام 2007 اتخذ التعاون بين مصر والناتو مرحلة قبول مصر بمأسسة التعاون الثنائي مع الحلف في إطار آلية الحوار المتوسطي دون أن يترتب على ذلك انخراط يضمن تأثيرا متبادلا من جانب مصر في توجهات الحلف والدول الأعضاء فيه.
خامسها: خلال الفترة من 2007 إلي 2015 أخذت مظاهر التعاون بين مصر والناتو ثلاثة أشكال رئيسية شملت الزيارات المتبادلة وتعزيز الحوار غير الرسمي مع الحلف، وتكثيف التعاون العلمي.
وكان المجلس المصري للشئون الخارجية هو أداة الحوار مع الناتو ومن خلاله تم التعاون مع قسم الدبلوماسية العامة بالحلف وحرصا من الخارجية المصرية على إبقاء علاقات التعاون مع الحلف، نظمت الوزارة بالتعاون مع برنامج الدبلوماسية العامة بالحلف لقاءات دورية وزيارات لوفود إعلامية كان آخرها زيارة الوفد المصري إلى مقر حلف الناتو في مارس الجاري.
يبقى القول إن مستقبل الرؤية المصرية للتعاون مع الناتو، يتطلب توسيع مجالات التعاون في إطار برنامج العلم من أجل السلام والأمن على نحو يخدم المصالح المصرية وفق ثوابتها الاستراتيجية الراسخة وأدوارها الإقليمية التي لا غنى عنها في بيئة إقليمية مضطربة.
أ ش أ