تقدم مصر نموذجا مضيئا للثقافة الإنسانية بشأن اللاجئين في وقت يتصاعد فيه الجدل بين تيارات مختلفة ومثقفين يتبنون رؤى متعددة حول العالم بشأن هذه الفئة من البشر.
وكانت وسائل إعلام دولية قد نقلت أمس الجمعة إشادة المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة بجهود مصر في رعاية اللاجئين.. منوهة في هذا السياق بتوفير فرص التعليم لهذه الفئة التي عانت من ظروف قاسية حتى اضطرت للتحول إلى لاجئين.
ونقلت المفوضية الأممية شهادات للاجئين أكدوا فيها أن مصر أنقذتهم من حالة الاضطراب وانعدام الأمن التي عانوا منها قبل أن يلوذوا بأرض الكنانة لينعموا بالأمن والآمان كما انخرط الطلاب منهم في الدراسة لاستكمال مراحلهم التعليمية وأمسوا يتطلعون بتفاؤل للمستقبل.
وكانت القاهرة قد استضافت في أواخر العام الماضي مؤتمرا دوليا لوقف خطابات الكراهية في وسائل الإعلام ضد المهاجرين واللاجئين وهو المؤتمر الذي نظمته المنظمة الدولية للهجرة بالتعاون مع “البرنامج المصري لتطوير الإعلام” فيما أشادت المتحدثة باسم “برنامج تحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة” نهال سعد بالتجربة المصرية الناجحة في استضافة المهاجرين واللاجئين.
وفيما أكدت أهمية دور وسائل الإعلام في مكافحة خطاب الكراهية ضد هذه الفئة من البشر المعذبين قدرت نهال سعد عدد المهاجرين واللاجئين الذين تحتضنهم مصر بنحو خمسة ملايين شخص ويتعامل المصريون معهم دون تمييز كأنهم في وطنهم.
وفيما تعد مصر الدولة الوحيدة التي لا يوجد بها “معسكرات اللاجئين” المنتشرة في دول كثيرة حول العالم، أشاد مسؤولون بمنظمات تابعة للأمم المتحدة مثل “اليونيسيف” بالخدمات الصحية التي تقدمها مصر للاجئين وتعاون السلطات المصرية مع هذه المنظمات للتخفيف من حدة معاناة هذه الفئة التي تشكل جرحا نازفا في الجسد العربي المثخن بجراح الفوضى والدمار في عدة بلدان.
ويشكل هذا الموقف المصري نموذجا إنسانيا مضيئا في وقت توالت فيه طروحات لمثقفين حول العالم تحذر من خطورة “الردة عن النزعة الإنسانية حيال اللاجئين وعدم المبالاة بعذابات البشر بغض النظر عن أصولهم وعقائدهم وانتماءاتهم”.
وتفاقم أزمة اللاجئين الفارين من ويلات النزاعات المسلحة تؤكد صحة وصواب الموقف المصري الذي ينادي بضرورة العمل من أجل تسوية تلك النزاعات والتصدي لظاهرة الإرهاب التي تشكل أحد أهم أسباب تفاقم الأزمة وفتح قنوات الهجرة الشرعية وتيسير عملية التنقل وربط الهجرة بالتنمية.
ومع التصاعد الواضح في أعداد اللاجئين حول العالم وتفاقم أوضاع اللاجئين في أماكن شتى.. فرضت هذه القضية الإنسانية نفسها على اهتمامات مبدعين مثل الكاتب والروائي الباكستاني محسن حميد الذي حظت روايته الأخيرة المكتوبة بالإنجليزية :”الخروج غربا” باهتمام واسع النطاق في الصحافة الثقافية الغربية.
وهذه الرواية التي أبدع صاحبها عبر بناء درامي متقن في تناول آلام اللاجئين الذين تقدر أعدادهم الآن بعشرات الملايين حول العالم وصلت العام الماضي للقائمة القصيرة لجائزة مان بوكر التي تعد من أهم الجوائز الثقافية في الغرب كما اختارتها جريدة “نيويورك تايمز” ضمن قائمة أفضل 10 كتب لعام 2017.
وفي عام 2015 شهد العالم أكبر موجة نزوح للاجئين منذ الحرب العالمية الثانية لتصل إلى “ذروة أليمة ولحظة فارقة في ظاهرة الشراع الباكية” أو مراكب وقوارب الموت السابحة في بحار ومحيطات العالم فيما أدت موجة التطرف والإرهاب التي عانت منها بلدان عربية لتصاعد الظاهرة المحزنة.
وتزامنت الظاهرة مع بروز خطابات لليمين المتطرف في الغرب تطفح بالكراهية للمهاجرين واللاجئين فيما تطالب مدير المكتب الإعلامي للأمم المتحدة في القاهرة راضية عاشوري “بالتصدي للسرديات التي ترفض الآخر وتعمق الكراهية ضد المهاجرين واللاجئين”.
وحسب تقديرات منشورة لمنظمة اليونيسيف الأممية المعنية برعاية الطفولة فإن نحو 28 مليون طفل شردوا من منازلهم عام 2015 جراء العنف والصراع “داخل وعبر الحدود” في بلدان شتى حول العالم بينما نشطت عصابات المهربين والمتاجرين بالأطفال.
ولعل ثمة حاجة لمزيد من الإضافات الثقافية المصرية-العربية في سياق تناول ما يسمى بقضية الهجرة غير الشرعية مع الألم الذي قد يحفز القلم للكتابة عن “توابيت الموت” السابحة في البحرالمتوسط وبقية بحار ومحيطات العالم.
وإذا كان العبور الثقافي للشاطيء الآخر الذي يستقبل موجات بشرية من الجنوب تطلب اللجوء أو تبحث عن أي فرص عمل مطلوبا فإن الثقافة الغربية تنتج بالفعل أعمالا جديدة حول تلك الظاهرة مثل كتاب صدر بالإنجليزية مؤخرا بعنوان “الحدود العنيفة: اللاجئون والحق في التنقل” وهو بقلم ريس جونز.
وكذلك استقبلت المكتبة البريطانية كتابا جديدا لديفيد ميلر بعنوان :”غرباء بيننا: الفلسفة السياسية للهجرة” ليثير الكتابان الجديدان المزيد من الجدل حول قضايا الهجرة واللاجئين في الغرب وهي قضايا باتت ضمن أولويات المرشحين في الانتخابات الرئاسية والتشريعية بعد أن فرضت نفسها على الاهتمام العام للناخبين.
ويسعى ريس جونز في كتابه الجديد لتقديم ما يصفه “باقتراحات عملية” لقضايا الهجرة واللاجئين التي تؤثر حسب رؤيته في مؤسسات الدولة في الغرب، معتبرا أنه من الأهمية بمكان معالجة هذه القضايا “بنظرة شاملة وفي إطار عالمي” لا يغفل مسائل مثل تأثير تدهور البيئة واستشراء الفقر إلى جانب عوامل عدم الاستقرار في البلدان التي يرحل منها مواطنوها ليتحولوا إلى لاجئين.
ولئن بدا ريس جونز متفهما للأسباب الجوهرية لتفاقم ظاهرة اللاجئين فإن ديفيد ميلر بدا في كتابه أقرب للرؤية المتشددة مع اللاجئين كما بدا مؤيدا “لمعايير أكثر صرامة لانتقاء المهاجرين الجدد” وأعادت تحذيراته بشأن “التأثير السلبي لتدفق المهاجرين على المناعة الاجتماعية” للأذهان ذلك الكتاب الذي صدر بعنوان “موت الغرب” واعتبر فيه السياسي اليميني الأمريكي باتريك بوكانان أن قيم المجتمعات الغربية مهددة بسبب ما وصفه “بغزوات المهاجرين من العالم الثالث” داعيا للحد من سيل الهجرات والتصدي للقيم الثقافية الوافدة.
وفي المقابل رأت الممثلة الأمريكية المشهورة أنجلينا جولي أنه ليس من دواعي الفخر الإساءة لأي شخص على أساس الدين أو الجنسية أو أي اختلاف اخر داعية “لمزيد من التسامح” فيما عرفت هذه النجمة الهوليوودية بأنشطتها الإنسانية والخيرية حول العالم خاصة كمبوديا وأفغانستان وهاييتي وبعض دول الشرق الأوسط.
وفيما اختارتها مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة “كسفيرة النوايا الحسنة” أبدت أنجلينا جولي اهتماما كبيرا بمآساة اللاجئين السوريين ودعت زعماء دول العالم للإجابة على سؤال بشأن “الأسباب الجذرية للصراع في سوريا وماذا يلزم لإنهائه”.
وواقع الحال أن أصواتا هامة في الثقافة الغربية انتبهت مبكرا لمآسي المهاجرين مثل الكاتب والفنان البريطاني الراحل جون بيرجر الذي نشر مع المصور الفوتوغرافي السويسري جون موهر كتابا وثائقيا عام 1975 بعنوان “رجل سابع” يتناول ظروف العيش البائسة للعمال المهاجرين في أوروبا ويقول نقاد ثقافيون أن من يتصفح هذا الكتاب يكاد يظن أنه صدر بالأمس القريب حول أزمة اللاجئين الراهنة في القارة الأوروبية.
ووسط الجدل المحتدم بين اتجاهات متعددة في الثقافة الغربية حول قضايا الهجرة واللاجئين تشكل مصر نموذجا هاديا ومفيدا للإنسانية حيال سبل التعامل مع هذه القضايا الملحة.. فمصر تؤكد بالأقوال والأفعال أهمية معالجة جذور المآساة و”التعامل مع هؤلاء البشر كبشر”.. إنها مصر بشخصيتها الحضارية ورسالتها الخالدة وأصالة شعبها المضياف تستمسك بثقافة الحق والخير والجمال.
المصدر: أ ش أ